7 أكتوبر آيات للصبار الشكور.. قراءة في المقاصد البلاغية والشرعية

في فجر السبت السابع من أكتوبر 2023م انطلقتْ هزّةٌ لا تُمحى من ذاكرة الأمة: عملية أُسميتْ بـ "طوفان
الأقصى"، ثمّة أبعادٌ متعددةٌ لهذا الحدث: ميدانية وإستراتيجية وإعلامية
ورمزية؛ لكنّ أهمَّ ما يميّز وقائعَ هذا اليوم هو ما تكشفه من معانٍ ربّانية لا
تُقرأ بالسطح وحده، وإنما بالآية والذكر والتأمّل؛ إذ يقول الحقُّ تعالى: ﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سورة إبراهيم: 5]. ففي الآية الكريمة وبخاصة ختامها فتحٌ
للنظرة نحو حكمةٍ تربط بين نسقٍ ربّانيٍّ يجعل للأحداث معنىً وغاية، وبين ابتلاءٍ
وصبرٍ وشكرٍ.
أولاً- الالتفات البلاغي في الآية: من "المتكلم" إلى "الغائب" وتأثيره البلاغي:
في الآية الكريمة من سورة إبراهيم
نلحظ ما يُسمّى في البلاغة العربية بـالالتفات "تحويل الخطاب من صيغة إلى
أخرى" في قوله تعالى: (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله)؛
فالمقتضى اللغوي كان أن يقول: "وَذَكِّرَهُمْ بِأَيَّامِي"، لكن
الآية أطلقتها على "أيام الله"، هذا
الالتفات له وقعٌ بلاغيٌّ عميق، وهذا الوقع له معالم وفوائد، منها:
تعظيم
المقصد: نسبة الأيام إلى الله يجعل من شأنها
شيئًا أعلى، فيُضفي عليها قداسةً وجلالةً. بعبارةٍ أخرى: الحديث عن الأيام ليس
مجرد فعلٍ بشريٍّ بل حقيقة إلهيةٌ تقتضي أن يلتفت الأسلوب من "المتكلم"
إلى صيغة "الغائب".
تحويل
الصيغة وختم المعنى:
عندما ينتقل الخطاب من المتكلّم إلى الغائب، يُحدث إحساسًا بالسموِّ والاتساع؛
فالحدثُ لم يكن مجرّد عملٍ لحظة، بل هو حلقة في سلسلةِ سننٍ إلهيةٍ؛ وهو
ما يُعطي الحادثة أفقًا أزليًّا، ويجعلها نموذجًا للتعامل الإنساني مع قدرات الله
وتقديره.
إظهار
الحكمة الربانية: الالتفات
يَحمل إشارةً إلى أن ما يحدث من انكسارات وانتصارات لا يُقاس بمجرد نتائج آنية، بل
يُحتسب في ميزانِ مقاصدَ ربّانيةٍ مترابطةٍ: امتحانٌ، تذكيرٌ، نِعمةٌ، أو انتقامٌ
عدليّ؛
فالآيات تشير للأعين الراصدة.
ولهذا فإن قول الله تعالى: "أيام
الله"
تأتي في محلها؛ فطوفان الأقصى بوصفه
يومًا من أيام الله لا يكتفِي بإعلان فعلٍ ميدانيّ؛ بل وضعه في منظور وعي ربّانيّ
يربط التاريخ بالحكمة والغاية.
ثانيا- ما الذي تعنيه "أيام الله" في سياق أحداث 7 أكتوبر ؟
إن الآية الكريمة المشار إليها آنفًا
تضع الحدثَ في بُعدٍ تربويٍّ وتشريعيٍّ: "أَيَّامُ اللَّهِ" ليست
مجرد تواريخ في زمنٍ فحسب، بل هي نعَمٌ وأحداثٌ تحمل حكمةً وتبيانًا ومقاصد، ففي
الخطاب النبويّ والقرآني، تُعرَف "أيام الله" بكونها
أَيَّامَ نصْرٍ، أو امتحانٍ، أو تذكيرٍ للمجتمعات برباطها مع الحقِّ، ومن هنا
نفهمُ لماذا صار "طوفان الأقصى" من أيام الله
الذي يجعل مقاصده تظهر: إثبات العزيمة، وبيان حقيقة المواقف، وبيان من كان
موحِّدًا لله في ضربته وموقفه.
وعندما يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، فالمقصود أنه في كلّ ما يقع من
أُمورٍ مَصيريةٍ -
بل وفي محطاتِ الانتصار والابتلاء
معًا -
آياتٌ للمؤمن الذي يجمع بين صبرٍ على
البلاء وشكرٍ على الفتوح، وهنا يأتي ارتباطنا بالحدث: إن طوفانَ الأقصى، مهما حمل
من ألم ودمارٍ للبنى التحتية وللنفوس، يحمل في طيّاته دعوةً إلى الصبر (على
المصيبة والثمن)،
والشكر (على ما تحقّق من تصحيح
موازين، وكسر هيبة العدو، وفتوحٍ معنويّة).
ثالثا- الصبر والشكر مقصدان إلهيان منطقيان للحادثة:
أ. الصبر:
الصبر هنا ليس الامتناع السلبي؛ بل هو
صبرٌ فِعليٌّ معنويٌّ واستراتيجيٌّ،
يَصبر المجاهدون والشعوب على الألم
على أمل أن يتحقق قضاء الله في إعادة الحقِّ، ويصبر الحاضن على الضغوط والابتلاءات
مع ثقةٍ بالنصر،
ذاك الصبر هو الذي يُعطي الصمودَ
بُعدًا أخلاقيًّا؛ فلا ينهار الوازع، ولا تُقدَّم تنازلاتٌ خائنة، وهو
المقصد الذي تُحضُّ عليه الآية: من ترى في الابتلاء آيةً تزداد إيمانًا وتصبر،
فتستردّ القدرة والمعنوية.
ب.
الشكر:
الشكرُ هنا يُعنى به الانتباه إلى
النِّعَم وسط الشدائد: نعمة الوعي، نعمة الوحدة، نعمة اكتشاف حقيقة المواقف
الدولية والداخلية، نعمة ما تحقق من مآثر، والشكر لا يعني التجاوز عن الخسائر، بل
هو إدراك القيمة العظمى لما تحقق من فتحٍ في المضمون والرمز، فالذي يصبر ويشكر يرى
الحادثة بمنظارِ المقاصد، لا بمنظارِ الخسارة المحضّ؛ وهذا يقوّي الثبات العام
ويمنح الحركة قدرةً على البناء بعد الفعل.
رابعاً- ما
الذي يعلمه لنا طوفان الأقصى إذا قرأناه عبر آيةٍ وبلاغةٍ؟
من أهم ما نتعمله من طوفان الأقصى:
فضحُ
الموازين وكشف الحقائق:
فأيام الله – والطوفان منها - تُظهر الطوفان الوجه الحقيقي للاحتلال أمام البشرية؛
والأيام هنا عملت كآيةٍ تُظهر الباطل على حقيقته، وهذا يُذكّرنا بأن الله يُبيّن
الحقّ ويُسقط الأقنعة.
إعادة
تعيين القِيَم: عادَت
مفاهيم الجهاد والرباط والشهادة إلى مركزيتها في وعي الكثيرين؛ معانٍ كادت تُمحى
أعيد لها بريقها، فتولَّدت أنساقٌ جديدةٌ من الفاعلية المجتمعية.
النتائج
السياسية والرمزية مترابطة:
لا يتناقض البُعدُ الميداني مع البُعدِ المعنوي؛ بل إنَّ كلَّ فعلٍ تكتيكيٍّ يحمل
أثرًا رمزيًّا، والعكس بالعكس، إذن القراءة القرآنية والبلاغية معًا تمنح الفعلَ خيارًا
له أبعادٌ متعددة، ولا تُتركُ العاطفةُ وحدها تحكمُ التقييم.
المقصدان: الصبر
والشكر دعامة لبناءٍ مستقبلي:
إنْ صبرَ الفاعلون وحاضنتُهم على التكلفة، وشكَروا ما تحقق من بركات عِبرةٍ
وإظهارٍ، فإنهما يضمنان تحويل الفعل إلى مشروعٍ يستدام ويؤسسُ لمستقبلٍ سياسيٍّ
وحضاريٍّ أصحّ.
***
"طوفان الأقصى"
إذن لم
يكن حدثًا لحظيًّا فحسب، بل كان أحداثًا إلهيةً تحمل آيات لمن له قلبٌ يَقْصدُ بها
الاعتبار؛ فالآية القرآنية التي استشهدنا بها تدعونا أن نقرأ هذا الحدث بعينين: عينِ
الصبر التي تحتمل الثمن، وعينِ الشكر التي تُدرِك النِّعم الخفية في إمكانات
الانتصار.
والالتفات البلاغي في الآية - نحو
نسبة الأيام إلى الله -
يعلّمُنا أنَّ هذه الأيام ليست ملكًا
لإنسانٍ أو فصيلٍ، بل هي لحظات في ميزانِ سننٍ إلهيةٍ ينبغي أن تُفهم وتُدار
بحكمةٍ وصبرٍ وشكرٍ.
وعلى هذا الأساس، فإن قراءة طوفان الأقصى
على أنه من "أيام الله" لا يكون مجرد تحليل لخطابٍ مجرد؛ بل مفتاحٌ
لفهمٍ أعمق يتصل بالشرعية والهوية والمقصد: كيف نقرأُ النصرَ؟ وكيف نقرأُ العلاقة
بين التكتيك والغاية، بين الصبر والشكر، بين التاريخ والآية؟ فالدرسُ هنا أن نأخذ
العِبرةَ من "أيام الله"، وأن نُديرَ بعدها العملَ السياسيّ والدعويّ
بضميرٍ يقينيٍّ وخلقيٍّ يجعل من الفعل وسيلةً للحقِّ لا سبيلاً للانحراف.
اقرأ أيضا:
- جيل «طوفان الأقصى».. ميلاد الوعي والمقاومة من المقاطعة إلى التحرير