أبو حنيفة.. مكتشف طاقات الشباب

عبدالقادر وحيد

05 أكتوبر 2025

170

لم يكن العلماء في تراثنا معزولين عن الواقع أو أنهم يعقدون حلقات العلم لأجل الاستماع لهم والإشادة بعلمهم، لم يكونوا يوماً بعيدين عن طلابهم، وإنما كانوا مشاركين لهمومهم وأوجاعهم الحسيّة والمعنوية.

وكما كانوا أذكياء مهرة في استنباط جوهر الأحكام الغائبة، كانوا كذلك في اكتشاف معادن وطاقات الطلاب الكامنة، ولم يقفوا عند حد الاكتشاف فقط، بل ساهموا في توظيف هذه الطاقات والكفاءات أجمل توظيف بكل ما يملكون.

بصيرة أبي حنيفة

كان الإمام أبو حنيفة متوقد الذكاء متفرساً في معرفة بواطن الناس ومهاراتهم، فهو مكتشف القاضي أبو يوسف؛ الذي صار من أكبر أصحابه ومن كان له الفضل الأكبر والحظ الأوفر في نشر مذهبه.

كانت البداية في مجلس أبي حنيفة عندما كان يأتي إليه الطلاب للاستماع إليه، ونترك أبو يوسف يحكي لنا ما دار بينه وبين أستاذه: توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصّار- من يدبغ الثياب- أخدمه، فكنت أدع القصّار وأمرّ إلى حلقة أبي حنيفة.

فكانت أمي تجيء خلفي فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي، لما يرى من حرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً -جزء من الدرهم- يعود به على نفسه.

فقال لها أبو حنيفة: مرّي يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق -الحلوى الفاخرة- فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.

يقول القاضي أبو يوسف: ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب، كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق.

فضحكت، فقال لي: مم ضحكك؟ فقلت: خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: لتخبرني، وألحّ عليّ، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا وديناً، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه(1).

لقد نقل لنا القاضي أبو يوسف فراسة أبي حنيفة من أولها إلى آخرها حيث تحققت نبوءته -إن جاز التعبير- وفق ما كان يأمله، لأنه تفرس في شخص الطالب الشاب أبي يوسف أنه سيكون له شأن -وقد كان- وصار من أكبر الناشرين لمذهبه، وذلك أنه تقلد لأول مرة في تاريخ الخلافة منصب قاضي القضاة، فكان الناس يتعاهدون مذهب أبي حنيفة لأجل تولي منصب القضاة فانتشر بذلك.

إعداد وتربية

لم يكن الأمر مع أبي حنيفة ضربة حظ أو فعلاً قام به وحالفته السعادة فيه، لكنه إلى خبرته وبصيرته بالناس، لم يترك الطالب النجيب أبا يوسف في مهب الريح يسوقه العوز أو تذهب به الحاجة في واد سحيق.

يقول القاضي أبو يوسف: تفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش، فجلست فلما انصرف الناس دفع إليّ صرّة وقال: استمتع بها، فنظرت فإذا فيها مائة درهم.

فقال لي: الزم الحلقة وإذا فرغت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إليّ مائة أخرى، ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يخبر بنفادها(2).

لقد وقف المعلّم أبو حنيفة مع تلميذه النجيب وقفة الوالد المشفق وليس الصديق المعجب، ولنا أن نتخيل إذا لم يتعاهد أبو حنيفة طالبه وترك حلقته بسبب العوز والحاجة، لما سمعنا عنه ولغمره النسيان كما غمر الآلاف من صبيان الكتاتيب.

بل إن أبا حنيفة كان يتعاهد جميع أحواله حتى في مرضه، ولقد عاده في مرض خيف عليه منه، فلما خرج من عنده وضع يده على عتبة بابه وقال: إن يمت هذا الفتى فإنه أعلم من عليها، وأومأ إلى الأرض.

أيضاً كان أبو حنيفة ينمي مهاراته وأداءه العلمي، يقول حماد نجل أبي حنيفة: رأيت أبي يوماً وعن يمينه أبو يوسف وعن يساره زُفُر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولاً إلا أفسده زفر، ولا يقول زفر قولاً إلا أفسده أبو يوسف، إلى وقت الظهر، فلما أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده فضرب بها فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رياسة ببلدة فيها أبو يوسف.

في المقابل، كان الطالب أبو يوسف على قدر المسؤولية مجتهداً حافظاً لم يغرّه الإحسان أو يتكل على نعمة الوفاء، بل كان رمزاً للجد والفهم وهو ما اكتشفه فيه غير أبي حنيفة، يقول أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة، فأجبته فيها فقال لي: من أين لك هذا؟ فقلت: من حديثك الذي حدثتنا أنت، ثم ذكرت له الحديث، فقال لي: إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك وما عرفت تأويله حتى الآن.

ومع وصول إلى أعلى رتبة علمية في عصره، إلا أنه كان يرى أن طلب العلم يستحق أن تعطيه كل حياتك فيقول: «العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك، وأنت إذا أعطيته كلّك من إعطائه البعض كنت على غرر».

أبو يوسف الفقير قاضياً للقضاة

كان أبو يوسف طفلاً فقيراً من أهل الكوفة، لكن طبّقت شهرته الآفاق وصار قاضياً للقضاة في عهد الخليفة هارون الرشيد.

قال عنه الذهبي: بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله(3).

وقد كان فقيهاً عالماً حافظاً، وبعد الكوفة سكن بغداد وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء: المهدي، وابنه الهادي، ثم هارون الرشيد، وكان عنده حظياً مكيناً.

وهو أول من دُعي بـ«قاضي القضاة»، ويقال له: قاضي قضاة الدنيا، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه، على مذهب أبي حنيفة، وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب(4).

وقد كان أفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة والقدر، أملى المسائل ونشرها، وبثّ علم أبي حنيفة في أقطار الأرض.

وكان يقول: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت عليّ الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب، فما مكث إلا شهوراً ومات(5).

ومن جميل كلامه وتجربته في الحياة: «صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة»، «رؤوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها».

اقرأ أيضاً:

سفيان الثوري رحمه الله

الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله " إمام أهل الأندلس "


___________________

(1) ابن خلكان: وفيات الأعيان.

(2) المرجع السابق.

(3) الذهبي: سير أعلام النبلاء.

(4) الأعلام: خير الدين الزركلي.

(5) ابن كثير: البداية والنهاية.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة