أنس الشريف.. الكلمة المسفوكة على أرض غزة

«التغطية مستمرة ولن تتوقف بإذن الله، مهما كانت الظروف، ومهما عظمت الأخطار والتهديدات.. الصورة ستصل».. هذه العبارة الملهمة كانت آخر ما كتبه شهيد الكلمة وصحفي «الجزيرة» أنس الشريف بعدما تلقى تهديدات من جيش الاحتلال الصهيوني باغتياله إن لم يتوقف عن تغطية الحرب الإجرامية في غزة.
كلمات تكشف واقع
الصحفيين الفلسطينيين الذين لا تنفصل معاناتهم عن معاناة شعبهم، فهم يعانون الحصار
والحرب والتهجير والتجويع والتشريد، ورغم ذلك تراهم ثابتين على أرضهم ينقلون صور
الحرب والدمار للعالم بأسره.
لكن في لحظات
مؤلمة يتحولون هم لخبر ينقله غيرهم عبر الشاشات، وكأنهم وحدهم صوت الشعب المغيب
خلف جدران الصمت والخذلان، فإن لم يكونوا قادرين على تغيير واقع الشعب الفلسطيني
الدامي، فعلى الأقل هم قادرون على نقل معاناته للعالم وخلق حالة من التعاطف الشعبي
العالمي مع مآسيه.
ومن هنا، فإن استهداف الصحفيين من قبل قوات الاحتلال الصهيوني لم يأت مصادفة، بل جريمة متعمدة ومقصودة لإخفاء جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني عن العالم.
جريمة حرب
إن استهداف
الصحفيين بشكل مباشر خلال الحروب يعد انتهاكاً للقوانين الدولية وجريمة مروعة من
جرائم الحرب، حيث يتمتع الصحفيون بحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني شأنهم
في ذلك شأن المدنيين، وذلك وفقًا للمادة (79) من البروتوكول الأول الملحق
باتفاقيات جنيف الأربع، التي وصلت لمستوى القانون العرفي الدولي، التي تنص على ما
يلي: «يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة
أشخاصاً مدنيين ضمن منطوق الفقرة الأولى من المادة (50)».
كما أن القتل
العمد للصحفيين يعد جريمة حرب تقع ضمن اختصاص المحكمة الدولية، وفقًا للمادة (8)
من نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة، كما يعد حرمانًا تعسفيًّا من الحياة وفقًا
للمادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويستوجب مساءلة
مرتكبيه.
وفق المكتب
الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، فإن الاحتلال «الإسرائيلي» ارتكب «إبادة إعلامية
ممنهجة» بحق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، منذ بدء عدوانه على قطاع غزة حتى
اليوم، فقد استشهد خلال الحرب على غزة 237 صحفياً، وأصيب 409 صحفيين، بعضهم
بإعاقات دائمة، إضافة إلى اعتقال 48 صحفياً، تعرّض عدد منهم للتعذيب والمعاملة
المهينة.
وأضاف البيان أن 143 مؤسسة إعلامية تعرّضت للاستهداف، بينها 12 صحيفة ورقية، و23 صحيفة إلكترونية، و11 إذاعة، و4 قنوات فضائية، إضافة إلى تدمير مقرات 12 فضائية عربية ودولية، كما أشار إلى تدمير 44 منزلاً لصحفيين، واستشهاد 21 ناشطاً إعلامياً على منصات التواصل.
استهداف
ممنهج
«بينتقموا منا
في الأولاد.. معلش».. كلمات نطق بها مراسل قناة «الجزيرة» في غزة وائل الدحدوح،
عندما شاهد جثث زوجته وأبنائه وأحفاده الذين استشهدوا جراء قصف الاحتلال الصهيوني
لمنزله.
لاحقاً، أكد
محرر الشؤون الفلسطينية في «القناة 13» العبرية تسفي يحزقيلي أن اغتيال عائلة
الدحدوح كان متعمداً، قائلاً: إن عائلة مراسل قناة «الجزيرة» في قطاع غزة وائل
الدحدوح كانت هدفاً لقصف جيش الاحتلال، مؤكداً أن قوات الجيش تعرف ما تضربه
بالضبط.
استهدف العدو
الصهيوني الصحفيين وأسرهم بشكل مباشر وممنهج؛ حتى يحجب عن العالم الجرائم
والانتهاكات التي يمارسها بحق الشعب الفلسطيني، ويجهض دور الصحفيين الفلسطينيين في
كشف التواطؤ الدولي على جرائم «إسرائيل» بحق الفلسطينيين، وكذا تأجيج الرأي العام
العالمي ضد «إسرائيل» وفقدان التعاطف معها، وهذا أشد ما يخشاه قادة الكيان المحتل.
مخطط قتل الكلمة
وإخماد الصوت، استمر الأحد 10 أغسطس الجاري، ليتم استهداف خيمة الصحفيين أمام
مستشفى الشفاء، ليرتقي في تلك المجزرة 5 صحفيين، أبرزهم صحفيا «الجزيرة» أنس
الشريف، ومحمد قريقع، والمصوران الصحفيان إبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، وسائق الطاقم
محمد نوفل، إضافة إلى إصابة الصحفي محمد صبح.
يقول الشريف، في
وصيته التي كتبها في وقت سابق وأوصى بنشرها عند استشهاده: «أوصيكم بفلسطين، درةَ
تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم. أوصيكم بأهلها، وبأطفالها
المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام، فقد
سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية،
فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران، أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم
الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية
على بلادنا السليبة».
كيان
فاشيّ
نحن أمام كيان
فاشيّ يمارس جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وفي القلب منه غزة
الصامدة، وأبرز تلك الجرائم تلك التي يمارسها الكيان المحتل بحق الصحفيين لحجب
عدستهم عن العالم، مستفيداً من التواطؤ العالمي والتخاذل العربي اللذين كان لهما
الدور الأكبر في تمادي «إسرائيل» في جرائمها المروعة بحق الشعب الفلسطيني.
استشهاد الشريف
ورفاقه لن يوقف كلمة الحق، ولن يخمد شوق الجهاد في قلب كل مسلم، بل إن كل حر وشريف
في ذلك العالم سيرتفع صوته ليكون صوتاً لكل فلسطيني صامد على أرضه في غزة.
إن غابت عدسة
أحدهم يوماً أو حُجبت كلمته قسراً، فإن عدسات الأمة بأكملها تقف لتنقل من خلفه
الصورة، وأصواتنا جميعاً ستصبح صوتاً لكل صامد صابر مناضل على أرضه، ويبقى جهاد
الصحفي بالكلمة من أعظم أنواع الجهاد، حيث إنه في بعض الأحيان يتخطى نقل الحقيقة
بعدسة كاميراته لينقلها بدمه وأشلاء جسده الممزق.