رأي «المجتمع»..

«العربية».. ومعركة البقاء

مجـلة المجتمع

31 ديسمبر 2025

70

في زمن تتسارع فيه التحولات التقنية، وتتزاحم الشاشات على تشكيل الوعي، تخوض اللغة العربية واحدة من أخطر معاركها؛ معركة البقاء بوصفها هوية وثقافة ورسالة، لا مجرد أداة تواصل، فالعصر الرقمي، بما يحمله من فرص هائلة، لا يخلو من تحديات جسام، جعلت «العربية» في قلب صراع مفتوح بين الأصالة والذوبان، وبين الرسوخ والتهميش.

لقد تحوّل الفضاء الرقمي إلى الساحة الأوسع لتشكيل الوعي الجمعي، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية المصدر الأول للمعرفة والتعبير، خصوصاً لدى الأجيال الشابة، غير أن العربية الفصحى، التي كانت يوماً عنوان الريادة العلمية والفكرية، تواجه اليوم تراجعاً ملحوظاً أمام زحف اللغات الأجنبية، وهيمنة اللهجات العامية، وظهور أنماط كتابية هجينة تُفرغ اللغة من جمالها ودقتها، وتقطع الصلة بينها وبين تراثها العميق.

وليس الخطر في استخدام لغات أخرى أو لهجات محلية، وإنما الخطر الحقيقي يكمن في أن يتحول هذا الاستخدام إلى بديل عن العربية، لا مكمّلٍ لها، وأن يُنتج جيلاً يفتقر إلى أدوات التعبير بلغته الأم، ويعجز عن فهم نصوص دينه وتراثه وفكره، فضعف اللغة ليس مسألة شكلية، بل هو مؤشر على خلل أعمق في الوعي بالهوية والرسالة.

إن العربية لم تكن يوماً لغة جامدة أو عاجزة عن التطور؛ فقد أثبتت عبر تاريخها الطويل قدرتها على استيعاب العلوم والفلسفات، وصياغة المفاهيم الدقيقة، وقيادة نهضة معرفية أضاءت للعالم طريق العلم، لكن الإشكال اليوم يكمن في موقعها من أولويات الأمة، وفي حجم الجهد المبذول لتمكينها من أدوات العصر الرقمي، من برمجيات، ومنصات، ومحتوى نوعي منافس.

وفي السياق الإسلامي، تكتسب قضية «العربية» بُعداً أعمق؛ فهي وعاء الوحي، ومفتاح فهم القرآن والسُّنة، وجسر الاتصال الصحيح مع مصادر التشريع، والتفريط في العربية، أو تهميشها، ينعكس مباشرة على الفهم الديني، ويُسهم في اتساع الفجوة بين الأجيال ونصوص الدين، ويجعل الأمة أكثر عرضة للسطحية وسوء التأويل.. ومن هنا، فإن الدفاع عن «العربية» في جوهره دفاع عن سلامة الفهم، وصيانة للهوية الإسلامية.

إن مسؤولية الحفاظ على «العربية» مسؤولية جماعية، تبدأ من الفرد وتنتهي عند المؤسسات، وهي أمانة شرعية وثقافية؛ لأن التفريط في اللغة تفريط في فهم الدين، وفي صلة الأمة بتراثها وقيمها.

وفي خضم هذا العالم الرقمي المتلاطم، تبقى «العربية» قادرة على أن تكون لغة الحاضر والمستقبل، إذا ما امتلكنا الشجاعة لننحاز إليها، ونخوض بها معركة الهوية بوعي وثبات.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة