حرب «الترندات».. محركات البحث في عصر النبوة!

عبدالقادر وحيد

18 نوفمبر 2025

125

منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لم تتوقف الحرب الإعلامية ضد دولته الناشئة؛ التي شعر الجميع بسرعة وتيرة تطورها، وهالهم قدر التنظيم النبوي لكل ما يتعلق بإدارة الدولة، فلم يتركوه يوماً واحداً دون عناء وإشغال دولته، بما يوجهونه من سهام وحرب إعلامية ضروس.

لم يقف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته مكتوفي الأيدي ضد ماكينة الإعلام الضخمة التي كانت تتناقلها قريش على جميع منصاتها، أو طابور الجواسيس في المدينة مدعوماً بتوجيهات من يهود المدينة أو رأس النفاق عبدالله بن أُبي بن سلول.

فمع كل واقعة كانت تتصدر منصة من هذه المنصات، وتوجه محركات البحث من شعراء وأسواق وأشخاص محترفين في سرعة نقل الأخبار؛ لأجل نشر الواقعة وتضخيمها، كان صلى الله عليه وسلم وصحابته في وعي تام بهذه المحركات، دون التنازل عن المنظومة القيمية والأخلاقية.

1- «ترند» كعب بن الأشرف.. وواقعنا المأزوم:

كان كعب بن الأشرف أحد رموز اليهود، يحظى بتقدير بينهم خاصة وفي جزيرة العرب عامة، حتى قريش كانت تقدّره وتستعمله كإحدى منصاتها الإعلامية.

كان ماهراً في قلب الحقائق، معتمداً على إرثه الثقافي كرجل من أهل الكتاب، وشاعراً مجيداً، له حضور وكاريزما بما منحه الله من جمال.

وحينما سألته قريش أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى سبيلاً، فأنزل تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً) (النساء:51)(1).

بهذه المخايل، صار كعب بن الأشرف «ترنداً»، والأكثر ظهوراً على محركات البحث عقب غزوة «بدر»، فلم يتحمل حجم الصدمة التي طالت قريش بمقتل سادتها، فذهب بحضوره الإعلامي يؤذي الله تعالى، ويكشف عورات نساء المسلمين في أشعاره التي تصول وتجول على جميع المنصات.

فكما كانت بدايته «ترنداً»، كانت أيضاً نهايته «ترنداً» والأعلى ظهوراً في محركات بحث عصر النبوة، عقب استهدافه في عملية استخباراتية معقدة على يد مفرزة من الصحابة.

وبعيداً عن تفاصيل هذه العملية، ما يهمنا هنا تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لعفاف المرأة وطهرها، وأنه لا بد أن تكون بمنأى عن أي ظهور فاحش لا يليق بعفتها على أي محرك من محركات البحث.

نتعجب غاية العجب في وضعنا الحالي، حينما تتسارع بعض النساء في الظهور العاري والفاتن؛ بحثاً عن الشهرة أو ركوب «الترند»، واللهث وراء جمع الأموال من خلال المشاهدات، دون وضع أي قيمة مجتمعية أو أخلاقية لظهورها.

2- المغيرة بن شعبة الأعلى ظهوراً في محركات البحث:

كان الصحابي المغيرة بن شعبة من دهاة العرب المعدودين، أفعاله وأحواله يتم تداولها كالنار في الهشيم، فهو كما قيل عنه: «المغيرة لكل صغيرة وكبيرة».

كان له حضور إعلامي كبير، أفعاله الأولى دائماً في محركات البحث؛ لما يتمتع به من فكاهة وذكاء ومكانته الدينية، فهو وعائلته كانوا المسؤولين عن صنم «اللات».

كما أن عمّه عروة بن مسعود الثقفي، أحد عظيم القريتين، كان مرشحاً لأن يتنزّل عليه القرآن بدلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بحسب زعمهم؛ (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31).

إذن، فحركاته وسكناته محسوبة، أينما حلّ وأينما رحل، وعندما كان في وفادة دبلوماسية لمصر لأجل مقابلة المقوقس، ولم يتمكن من الوصول إليه كبقية وفد ثقيف، ولم يمنح أي هدية ملوكية، حنق على الوفد لأنهم لم يمنحوه من هداياهم.

وبحيلة من حيله استطاع أن يسكرهم، فناموا جميعاً فقام بقتلهم وسلب أموالهم، وبعد فعلته الشنيعة ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يجد منجى إلا الذهاب إلى المدينة ليشهر إسلامه ويتخلص من مأثم جرائمه الثقيلة(2).

تحولت محركات البحث إلى المدينة وصارت محطّ الأنظار، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بفعلته، قَبِل إسلامه ورفض مال المشركين المسلوب؛ «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء»، ليتحول «الترند» القديم «المغيرة بن شعبة والمال المسلوب»، إلى «المغيرة بن شعبة والمال المرفوض».

ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم احترام منظومة القيم، وأن مال المشرك، مهما كان شركه لا يؤخذ منه بالغدر، وأن الوفاء من أعلى قيم الإسلام.

3- «ترند» الحجاج بن علاط.. والمال المفقود:

كان نبأ نصر النبي صلى الله عليه وسلم وسحق يهود خيبر «الترند» الأول في دولة المدينة وخيبر، بينما كان يتم تداول «ترند» مضاد في مكة، بأنه صلى الله عليه وسلم قد قُتل أو وقع في الأسر، وتطمح قريش في شرائه أو استرداده من يهود خيبر.

في هذه الأثناء تصدر اسم الحجاج بن علاط محركات البحث، فقريش تنتظر على أحرّ من الجمر أي قادم ليؤكد «الترند» المزعوم؛ ليقدم عليهم رجل الأعمال الثري والسريع في نقل الأخبار الحجاج بن علاط، ويؤكد صحة «الترند» الكاذب.

كان الحجاج بن علاط قد أسلم قبل مجيئه، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يمارس خداعاً على قريش بأن المسلمين قد هُزموا، وذلك لأجل أن يأخذه ماله الموزع في بورصة قريش.

كانت خطته رائعة حينما أوهمهم بذلك وجمع ماله ليذهب لخيبر لشراء العبيد والجواري، وهو في الحقيقة يجمع ماله بهدوء، ليظهر مجدداً في محركات البحث بأنه استنقذ ماله بخديعة سمح له بها صلى الله عليه وسلم لأجل حفظ ماله ولا يضيع بين المشركين(3).

نحن أمام قيمة جديدة من قيم النبوة؛ وهي الحفاظ على مال الغير، وإن تسبب ذلك في إيذاء نفسي بعض الوقت، لمن تألم بنقل الخبر الكاذب، ولكنه كان لساعات ثم تدفقت الحقيقة بـ«الترند» الحقيقي الحجاج بن علاط يخدع قريش ويفرّ بأمواله.

4- كعب بن مالك.. وطابور الجواسيس:

كانت واقعة الصحابي كعب بن مالك «الترند» الأول في دولة المدينة، وذلك حينما تخلّف في غزوة «تبوك».

وحالة الصحابي كعب بن مالك عبّر عنها بنفسه، وأنها كانت كما وصفها القرآن: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) (التوبة: 118).

في هذا الضيق والبلاء الشديد جاءته رسالة من ملك غسان يأمره بترك المدينة واللحاق به، فعليه أن يغادر أرض الهوان إلى أرض العزة، وهذا يكشف سرعة حركة طابور الجواسيس في المدينة.

جاءه تاجر نَبَطَي من بلاد الشام يحمل له رسالة: «بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك»(4).

لم يخضع الصحابي الجليل لمحركات البحث وأراجيفها، وقاوم كل الضغوط النفسية، لينقلب «الترند» القديم بجديد؛ وكأن لسان حال أهل المدينة «تاب الله على كعب بن مالك».

نحن أمام منظومة من القيم لا مثيل لها، وأنه صلى الله عليه وسلم جاء لكي يتمم مكارم الأخلاق، لا ليضعفها.

فكل جيل من الأجيال لا بد أن يستلهم هذه الروح ويضيف إلى منظومة القيم؛ لا يهدرها، وأن يوظف وسائل عصره في الحفاظ عليها، وليس استخدمها للتشويه واللهث وراء أكبر عدد من المشاهدات المكذوبة و«الترندات» الملغومة.



اقرأ أيضاً:

«تسريب الشفرة».. أبو بصير واحترام الاتفاقات الدولية

لماذا اهتز عرش الرحمن للصحابي سعد بن معاذ؟

«كاتم السر».. لماذا خُصَّ حذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين؟




_____________________

(1) السهيلي: الروض الأُنُف.

(2) الذهبي: سير أعلام النبلاء.

(3) ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد.

(4) الصالحي: سبل الهدى والرشاد.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة