إحسان العبادة وأثره في حياة المسلم
أورد ابن قيم الجوزية في «بدائع الفوائد»
أن فأرة رأت جملاً فأعجبها، فجرت خطامه فتبعها، فلما وصلت إلى باب بيتها، وقف
فنادى بلسان الحال: إما أن تتخذي داراً تليق بمحبوبك أو محبوباً يليق بدارك، ثم
علق ابن القيم على هذه القصة الرمزية بقوله: وهكذا أنت.، إما أن تصلي صلاة تليق
بمعبودك، وإما أن تتخذ معبوداً يليق بصلاتك.
مفهوم إحسان العبادة
الإحسان هو الإتقان والإجادة، وفي
العبادة يعني أن يعبد العبد ربَّه على وجه المراقبة الدائمة، كأنه يراه، فإن لم
يبلغ ذلك المقام، استحضر يقينه بأن الله يراه ويطّلع عليه، وقد بيّن النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك بقوله كما في صحيح مسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن
لم تكن تراه فإنه يراك».
التأسيس الشرعي لإتقان العبادات
يرتكز الإحسان في العبادة على ما جاء في
القرآن الكريم والسُّنة النبوية من الحث على ذلك، ففي القرآن الكريم يقول الله
تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك)، وحسن العمل كما قال الفضيل بن عياض يعني: أخلصه
وأصوبه.
وإخلاصه أن يقصد به وجه الله تعالى، بحيث
يكون خالياً من الشرك والرياء، وصوابه يعني أن يكون موافقاً لما شرع الله تعالى
وسن نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعَنْ مُعَاذ بن جبل قَالَ: لَقِيَنِي
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، إِنِّي
لَأُحِبُّكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ، قَالَ: «فَإِنِّي
أُوصِيكَ بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى
ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»، وفي سنن الترمذي عَنْ رَجُلٍ مَنْ
بَنِي حَنْظَلَةَ، قَالَ: صَحِبْتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ:
أَلَا أُعَلِّمُكَ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي
الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ
عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ
بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ،
وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ».
وفي مسند أحمد عَنْ نَهِيكِ بْنِ سِنَانٍ
السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ أَتَى عَبْدَاللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: قَرَأْتُ
الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا مِثْلَ هَذِّ الشِّعْرِ،
أَوْ نَثْرًا مِثْلَ نَثْرِ الدَّقَلِ؟ إِنَّمَا فُصِّلَ لِتُفَصِّلُوا، لَقَدْ
عَلِمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْرُنُ، عِشْرِينَ سُورَةً: الرَّحْمَنُ وَالنَّجْمُ، عَلَى تَأْلِيفِ
ابْنِ مَسْعُودٍ، كُلُّ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، وَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَعَمَّ
يَتَسَاءَلُونَ فِي رَكْعَةٍ»، وروى علقمة عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدقل
ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر
السورة.
مظاهر إحسان العبادات
إذا كان إحسان العمل يعني إخلاصه وصوابه،
كما قال الفضيل بن عياض؛ فإن مظاهر هذا الإحسان تنبني على الإخلاص والموافقة لشرع
الله تعالى، ويمكن إجمال مظاهر إحسان العبادة فيما يأتي:
1- إخلاص النية لله تعالى.
2- استحضار المقصد منها وهو إرضاء الله
عز وجل.
3- حضور القلب عند أدائها.
4- الإتيان بها وفق شروطها.
5- أداؤها بأركانها وسننها.
6- التخلي عن محظوراتها.
7- شكر الله على التوفيق لأدائها،
والدعاء بقبولها.
ثمرات إحسان العبادات
1- قبول العمل وتحقيق القرب من الله تعالى:
لقد وعد الله تعالى بالقبول ممن اتقاه
وأحسن في عمله، حيث قال تعالى: (إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، والإحسان في
العبادة يحقق لصاحبه القرب من الله عز وجل، فقد قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:
19)، فمن أحسن في سجوده وعبادته اقترب من ربه تعالى، وفي السُّنة النبوية
جاءت الأحاديث مؤكدة أن تحصيل أجر العبادة مرتبط بإحسانها.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد
الْخُدْرِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللهُ
عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا»، وفي صحيح مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ
تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى
تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ»، وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَالَهَا فَأَحْسَنَ
إِلَيْهَا، ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران».
2- تحقيق السكينة والطمأنينة:
أوضح الله تعالى أن الذين يذكرونه ينعم
عليهم بالسكينة والطمأنينة، فقد قال عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ
اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يعلن راحته في أداء الصلاة واطمئنانه بها، ففي مسند
أحمد، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»، وفي سنن أبي داود، عَنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ
أَمْرٌ صَلَّى»، وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم كلها السكينة والطمأنينة
والإحسان، والإحسان يمنح العبد راحة نفسية وسكينة قلبية، حيث يفيض الله عليه من
واسع فضله وكرمه.
3- ضبط الأخلاق واستقامة السلوك:
يظهر أثر إحسان العبادة في الأخلاق
والسلوك، حيث قال عز وجل في الصلاة: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45)، وقال تعالى
في الزكاة: (خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103)، وقال
في الصيام: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وقال في الحج: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197)،
فهذه كلها آيات تؤكد أن ثمرة العبادة الحقيقية تظهر في حسن الأخلاق وضبط السلوك.
4- الوقاية من الرياء:
فالمحسن في عبادته متجه بقلبه وكيانه كله
لله تعالى، لا يلتفت إلا الخلق، بل هو غني عنهم، طامع في الوصول إلى الله تعالى
وحده لا شريك له، ومما يعين على الوقاية من الرياء: استحضار النية والإخلاص لله
تعالى، فقد قال عز وجل: (وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:
5).