رمضان يعيد ترميم النسيج الاجتماعي في اليمن

يتعدى شهر رمضان المبارك في اليمن مجرد كونه شهرَا للصوم والعبادة، ليمثل محطة سنوية تحيي في وجدان هذا الشعب المكلوم من ويلات الحرب، قيمًا إنسانية جليلة، كادت أن تطمس تحت وطأة سنوات هذا الصراع الممتد، فيطل على الشعب اليمني الذي عرف يتعدى شهر رمضان المبارك في اليمن مجرد كونه شهرًا للصوم والعبادة، ليمثل محطة سنوية تحيي في وجدان هذا الشعب المكلوم من ويلات الحرب قيمًا إنسانية جليلة، كادت أن تطمس تحت وطأة سنوات هذا الصراع الممتد، فيطل على الشعب اليمني، الذي عرف عبر تاريخه بتشبثه بوحدة النسيج الاجتماعي، شهر رمضان الكريم حاملاً معه بصيص أمل لما تبقى من جسور التواصل بين أبناء الوطن الواحد.
لقد خلفت الحرب، التي اندلعت عام 2015م، شرخا عميقا
في الكيان الاجتماعي اليمني، حيث تحولت القرى والمدن إلى ساحات للاقتتال، وتفككت
أواصر الثقة بين المجتمعات، لكن رمضان بشعائره التي تجمع بين التضرع إلى الله
والتلاحم الإنساني، يظل شاهدا على أن جذور الوحدة لم تمت، بل هي كالجمر تحت الرماد
تنتظر نفحة إيمانية لتعود مشتعلة من جديد.
ويبقى السؤال الذي يراود جميع المراقبين للشأن
اليمني: كيف يمكن تحويل طقوس هذا الشهر الفضيل إلى جسر يعبر عليه اليمنيون من ضفة
العداء إلى شاطئ المصالحة؟ وكيف تستثمر لياليه المباركة، وأجواؤه الروحية، في
إذابة جليد القطيعة، وإعادة ربط ما انقطع من حبال المودة؟
وتنفك الإجابة على هذا التساؤل عن مجرد التحليل
السياسي، لتستدعي روح ديننا الحنيف الذي جعل من الصوم ليس مجرد امتناع عن شهوتي
البطن والفرج، بل مدرسة للتراحم، ومن التراويح ليس مجرد صلاة جماعة، بل محفلًا
للوحدة، ومن الصدقة ليس بذل المال، بل سلاحًا لمواجهة الأنانية.
مصالحات
رمضانية
تحول التقاليد الاجتماعية والدينية في اليمن هذا
الشهر الفضيل إلى (موسمٍ ذهبي) لترميم العلاقات الإنسانية، حتى في أحلك فترات
الصراع، وهو الأمر الذي يرجع إلى عمق الثقافة اليمنية التي تعتبر رمضان شهرًا ترفع
فيه الأسلحة طوعًا، وتعلو فيه كلمة الحكمة على صراخ الحرب.
وقد عرف عن اليمنيين –عبر قرون– احترام حرمة الشهر
الفضيل، فكانت القبائل المتحاربة توقف القتال مؤقتًا خلال رمضان، استجابة لنداءات
المشايخ والعقلاء، كما جسدت الوساطات العشائرية في رمضان نموذجا فريدا للعدالة
البديلة، حيث يقام (المجلس الرمضاني)، وهو اجتماع يضم شيوخ القبائل وأطراف النزاع في
جو تسوده الروحانية، ففي 2010 نجح مشايخ مأرب في فض نزاع دام سنوات بين قبيلتين
عبر جلسات حوارية في ليالِي رمضان، مستندين إلى قاعدة عرفية: (لا يصلح الدم إلا
الصوم والصلح)، وهنا يلتقي العُرف اليمني مع الشرع الإسلامي، الذي يحث على الإصلاح
في قوله تعالي: (وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ) (النساء: 128).
اقرأ أيضا: رمضان اليمن.. هنا الصُّلح والشفوت والجمل الأكبر!
وقد تحولت الهدنة الرمضانية في السنوات الأخيرة بسبب
استمرار الحرب إلى فرصة لإنقاذ الأرواح؛ فقد شهد يوم الرابع والعشرين من رمضان
الموافق 15 أبريل 2022 استكمال صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين بين أطراف النزاع
بإطلاق سراح 318 أسيرا من الطرفين عبر أربع رحلات بين مطاري صنعاء وعدن، عبر
وساطات دولية، كما تم في رمضان من العام نفسه إطلاق سراح نحو 100 أسير من أطراف
الصراع في تعز، عبر وساطات محلية دعمتها منظمات دولية.
كما تستغل الأجواء الروحية في هذا الشهر المبارك
لتوصيل المساعدات إلى المناطق المحاصرة، في إطار ما يعرف بـ(مبادرات إفطار
الصائمين)، التي تستلهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ
أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا»
(رواه الترمذي).
وهكذا يظل رمضان في اليمن شاهدًا على أن جذور السلام
أعمق من جذور الحرب، وأن القبائل –برغم كل شيء– تحمل في تراثها بذور الحلول التي
تعيد للوطن أنفاسه المفقودة.
مبادرات
المصالحة
شهدت اليمن خلال السنوات الأخيرة سلسلة من المبادرات
الرمضانية لصناعة السلام، حيث برزت روح الشهر الفضيل كقوة قادرة على إذابة جمود
الصراعات وتجاوز الانقسامات، حتى في أكثر المناطق تأججًا بالتحديات، وقد انعكست
هذه التجارب في مبادرات عدة حملت بين طياتها رسالة مصالحة وتآلف، مما جعل من رمضان
موسمًا لإصلاح ذات البين وتوحيد الصفوف.
في تعز، بزغ نجم مبادرة (إفطار الوحدة) خلال رمضان
2023، حيث اجتمع شباب متطوعون، وقاموا بدعوة عائلاتٍ من أحياء متنازعة إلى مائدة
إفطار واحدة، تحت شعار (الصوم لله يذيب جليد القلوب)، ولم تقتصر نتائج هذه
المبادرة على تبادل الاعتذارات العفوية بين أفراد العائلات فحسب، بل أسفرت أيضًا
عن إعادة فتح طرق كانت قد أغلقتها الصراعات والخلافات.
أما في مأرب، فكانت (هدنة مأرب الرمضانية) خلال رمضان
2022 نموذجًا استثنائيًا للتصالح الوطني، إذ لعبت القبائل دور الوساطة لوقف إطلاق
النار بين القوات النظامية والمليشيات، وقد سمحت هذه الهدنة بتوصيل المساعدات إلى
قرى محاصرة، وإدخال 500 سلة غذائية إلى المناطق النائية، فضلاً عن إطلاق سراح 20
أسيرًا من كلا الطرفين، ولم يغب عن هذه المبادرة البعد الروحي، إذ أقيمت صلاة
تراويح مشتركة في قرية (الغُرف)، مترافقًا مع تلاوة آية: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) (آل عمران:
103).
اقرأ أيضا: ماذا تبقى من المدارس القرآنية في اليمن؟!
رمضان يجمعنا
وفي عدن، تحولت مساجد المدينة إلى منصات للحوار
والإصلاح من خلال مبادرة (مسجد السلام) التي انطلقت في رمضان 2024، فقد قام أئمة
المساجد بدور الوسيط الناصح، من خلال سلسلة ندوات تحت عنوان (رمضان يجمعنا)، هدفت
عبر النصح والإرشاد إلى تحفيز الأطراف المتناحرة على تبادل الحوار البناء، وكان من
بين ما أنتجته هذه الجهود توقيع اتفاقيات صلح محلية، أبرزها تلك التي رددتها
المواقع الصحفية في اليمن بين جماعتين متخاصمتين بشأن تقاسم موارد المياه.
وتثبت هذه النماذج أن اليمن –برغم جراحه– يحمل في
تراثه وثقافته الدينية أدوات فريدة لصناعة السلام، حيث يتحول رمضان من شهر للصوم
إلى موسم لإصلاح ذات البين، استجابةً لنداء دستورنا في هذه الحياة الدنيا: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى) (البقرة: 237).
ويبقى أن كل مائدة إفطار جماعية في شهر رمضان الفضيل،
وكل يد كريمة تمتد للمصالحة، هي لاشك بمثابة خطوة نحو يمن يلملم جراح الماضي، ويعيد
في هذه الأيام المباركة اكتشاف روحه الواحدة، ويزدهر في فضاء من السلام والتآخي.