«إسرائيل» والتصعيد الإقليمي في سورية.. قراءة في الأهداف الخفية
في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، يبدو أن التصعيد في
جنوب سورية تحديداً لم يكن مجرد رد فعل أمني على تهديدات حدودية أو نشاطات عسكرية
من فصائل تابعة لحلف المقاومة أو بسبب تواجد إيراني، فالمشهد أعمق من ذلك بكثير
وتغلفه طبقات من الأهداف الخفية التي تُحاك بعناية منذ سنوات طويلة ضمن سياق إستراتيجي
أوسع يستهدف إعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية والسياسية في الإقليم بشكل عام وفي
سورية بشكل خاص، على النحو الذي يخدم الأمن القومي «الإسرائيلي»، ويكرس تفتيت
المنطقة إلى كيانات طائفية وعرقية متصارعة.
سورية.. منع توحيد الدولة والإبقاء على الفوضى
مع سقوط نظام بشار الأسد وتشكّل نظام جديد، تغيّرت حسابات «إسرائيل» في
سورية، فلم يعد الأمر متعلقًا بضرب النفوذ الإيراني و«حزب الله»، بل بمنع استقرار
سورية ووحدتها، ولعلّ أهداف «إسرائيل» الآن تتمثل في إبقاء سورية دولة ضعيفة
ومقسمة، ومن ناحية أخرى منع إعادة بناء جيش سوري قوي يمكن أن يشكّل نواة تهديد
طويل المدى؛ لذا تسعى «إسرائيل» عبر الضربات العسكرية المتكررة التأثير على شكل
النظام الجديد بحيث يكون ضعيفًا وهشاً، فهدفها تغذية الصراعات الداخلية وتأجيجها
بفرض نفوذها سياسيًا بإقامة علاقات سرية مع بعض الفصائل المسلحة التابعة لأقليات
من الدروز بهدف عدم استقرار سورية.
لذا، فهي تعمل على التدخل العسكري المستمر لعدم توحيد سورية جغرافياً أو
بناء جيش قوي؛ باختصار، «إسرائيل» لا تريد لسورية أن تتوحد من جديد، بل تريدها
دولة ضعيفة وممزقة للحفاظ على أمنها وتفوقها في المنطقة.
ماذا تريد «إسرائيل» من دروز سورية؟
من الواضح أن للطائفة الدرزية في جنوب سورية لا سيما في محافظة السويداء
موقعًا إستراتيجيًا حساسًا يجعلها في صلب الحسابات «الإسرائيلية»، فـ«إسرائيل»
التي تحتفظ بعلاقات مع جزء من دروز الجولان المحتل تسعى حاليًا لاستغلال الظروف
الأمنية والسياسية لتوسيع تأثيرها في الجيب الدرزي السوري.
تكمن مصلحة «إسرائيل» في أن يكون هذا الجيب محايدًا أو حتى مواليًا لها، لا
سيما مع تفكك الدولة المركزية في دمشق وازدياد النفوذ في الشمال والغرب؛ ولذلك،
فإن الدعم المباشر لبعض الحركات الدرزية «المطالِبة بالحكم الذاتي» في السويداء
ليس بعيدًا عن إستراتيجية «إسرائيل» في خلق «شريط آمن» أو منطقة عازلة على الحدود
الشمالية، شبيهة بتلك التي كانت قائمة في جنوب لبنان في الثمانينيات.
تفتيت سورية.. تشجيع العلويين والأكراد
ضمن هذا الإطار، لا تكتفي «إسرائيل» بالمراهنة على الدروز فقط، فهناك تشجيع
واضح لتحركات سياسية وعسكرية تقودها مكونات أخرى من المجتمع السوري، كالأكراد في
الشمال الشرقي والعلويين في الساحل، فالهدف المعلن هو ضمان حقوق الأقليات، لكن
الهدف غير المعلن هو تفتيت الكيان السوري إلى كانتونات عرقية ومذهبية.
«إسرائيل» تعلم جيدًا أن بقاء سورية موحدة تحت سلطة مركزية قوية يشكل
تهديدًا محتملًا لأمنها القومي على المدى الطويل، لذلك فإن إستراتيجية «سورية
المفككة» تخدم رؤيتها لأمنها الحدودي، بل وتشكل صمام أمان ضد أي عودة محتملة لـ«محور
المقاومة» الذي يمر من طهران إلى بيروت عبر دمشق.
جيب درزي في الجنوب.. استمرار لعزل السُّنة
ربما أخطر ما في المشروع «الإسرائيلي» هو أن إقامة جيب درزي في الجنوب لا
يخدم فقط الطائفة الدرزية، بل يعيد إنتاج الدور الذي مارسه حزب البعث منذ عقود في
فصل العالم السُّني جغرافيًا، ومنعه من تشكيل وحدة جغرافية تمتد من جنوب سورية إلى
وسطها فشمالها، فوجود جيب درزي تحت حماية «إسرائيلية»، بين الجنوب السُّني والوسط،
سيعني عمليًا قطع أي تواصل سُنّي جغرافي أو سياسي.
هذا الانفصال الجغرافي لا يقل أهمية عن السيطرة العسكرية، لأنه يحول دون
إمكانية قيام كيان سُني موحد أو حتى منطقة سُنية متصلة؛ ما يُفقد هذا المكون
الأكبر في سورية أي أمل في الاستقلال أو حتى التفاوض من موقع قوة.
انضمام الجيب الدرزي للكيان.. جنود جدد لجيش منهك
الحديث عن احتمال انضمام الجيب الدرزي في الجنوب السوري إلى الكيان
الصهيوني قد يبدو مستبعدًا للبعض، لكنه خيار مطروح في سيناريوهات «إسرائيل» الإستراتيجية
بعيدة المدى، وفي حال تحقق ذلك، فإن عشرات الآلاف من الدروز السوريين، الذين
يتميزون بانضباطهم وولائهم في المجتمعات المغلقة، قد يُضافون نظريًا إلى الجيش «الإسرائيلي»،
الذي يواجه أزمة تجنيد غير مسبوقة بسبب عزوف الشباب اليهودي عن الخدمة العسكرية.
انضمام هذه القوة البشرية الجديدة قد يشكل دفعة قوية لجيش الاحتلال، ليس
فقط على الصعيد العددي، بل أيضًا في تثبيت السيطرة على الجولان والمناطق المحاذية،
خاصة أن الدروز معروفون بعلاقاتهم المتشابكة مع أبناء طائفتهم في الجولان؛ ما
يجعلهم جسراً لدمج المنطقة اجتماعيًا وسياسيًا ضمن الكيان «الإسرائيلي».
فالكيان «الإسرائيل» يعتمد على سياسة «فرِّق تسُد» من خلال إبقاء الدول
العربية منشغلة بصراعات داخلية تمنعها من تشكيل أي تهديد محتمل لـ«إسرائيل»، كدعم
حركات انفصالية أو اضطرابات في الدول التي قد تنافسها عسكريًا، وإضعاف الجيوش
العربية عبر استمرار الحروب والنزاعات الداخلية، لذلك فهي تستمر في تعزيز
الانقسامات الطائفية والسياسية لمنع مجرد التفكير في تشكيل تحالف عربي ضدها
إرسال رسائل ردع إقليمية
«إسرائيل» تستخدم التصعيد ضد أي طرف إقليمي جديد، وتريد إثبات أنها لا تزال
تملك اليد العليا في المنطقة، خاصة بعد التغيّرات السياسية في المنطقة، فدور
الشرطي في المنطقة الذي تحاول «إسرائيل» تقمصه جعلها تسعى إلى الاستمرار في إضعاف
الدور المستقبلي للدولة السورية، ولا تريد لسورية أن تستعيد قوتها الاقتصادية
والسياسية، وألا تكون لاعبًا في المنطقة سواها؛ لذلك تساهم في إبقاء المنطقة تحت
الضغط العسكري والسياسي، ولا تكتفي بذلك بل تعمل على التدخل المستمر في شؤون الدول
العربية المجاورة كلبنان واليمن، سواء عبر الضربات العسكرية أو التأثير السياسي
لتعزيز وجودها العسكري في البحر الأحمر والخليج لضمان السيطرة على طرق التجارة
الحيوية.
«إسرائيل» لا تتصرف عبثًا في سورية، وكل خطوة على الأرض تُحسب بدقة ضمن
إطار إستراتيجي طويل الأمد من دعم الأقليات، إلى تشجيع الانفصال، إلى تفتيت الكيان
السوري، كلها أدوات تُستخدم لتأمين «إسرائيل الكبرى» بنسختها الأمنية لا الجغرافية.
لذا؛ فإن «إسرائيل» لا تتحرك فقط بدوافع أمنية، بل تسعى لإعادة تشكيل
المشهد الإقليمي لصالحها عبر التصعيد المستمر في سورية، ويصبح مستقبل المنطقة أكثر
تعقيدًا، حيث تظل كل السيناريوهات مفتوحة بين تصعيد عسكري واسع أو توازن ردع قد
يمنع حربًا شاملة، لكنّ المؤكد أننا أمام مرحلة جديدة تمهّد الطريق لأطماع لا
تتوقف عند حدود الجولان؟