إعادة إعمار النفوس

يثير الحديث المتواصل عن إعادة إعمار قطاع غزة، احتياجا واسعا، وشوقا كبيرا، نحو الحاجة إلى إعادة إعمار النفوس، التي تعرضت للتخريب على يد دعاة العلمنة والمادية، ورُسل الفتنة والشهوة.
نعم.. إن النفس البشرية مثل البناء، تتعرض لتصدعات وتشققات، وربما تنهار على صاحبها، إذا امتلكها الصدأ، وسيطر عليها العفن، وتفشى فيها الفساد.
ومع تكالب شياطين الإنس والجن من كل حدب وصوب، تتعرض النفس لهجمات ضارية، تنال من حصونها، وتهدم أركانها، وتزيغ بها عن طريق الهدى والتُقى والعفاف والصلاح.
نحن نفوس أشبه بقطاع غزة وما به من ركام وأنقاض وبنى تحتية مهدمة، في حاجة ماسة لإعادة إحياء، ومشروع إعمار من جديد ينهض بها، لنتذكر حقيقة تلك الدنيا، وندرك جوهر هذه الحياة، وأعيننا تتصفح قول الله عز وجل: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (سورة الذاريات، آية 56).
إن غزة تُحيي في النفس المسلمة، الحاجة إلى إعمار الذات، وتنقيتها من الشوائب، وإيقاظ الضمير، وترميم القلب، وصيانة الجسد، مما أصابه من وهن وضعف، وحب للدنيا، وتكالب على الملذات والشهوات.
ربما تكون الفرصة مواتية لهذا الإعمار مع قرب انطلاق شهر رمضان العظيم، وهو رافعة ربانية لإزالة ركام النفس، والتخلص من أنقاض الذنوب والمعاصي، وتطهير القلب من ألغام الفتنة ومفجرات الشهوة، لتصبح النفس ممهدة إيمانيا وروحانيا للارتقاء والسمو عن الصغائر والكبائر، قال تعالى: "ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" (سورة الشمس، الآيات من 7 إلى 10).
قال المفسرون: المعنى قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من دساها بالمعاصي، فالطاعة تزكي النفس وتطهرها، فترتفع، والمعاصي تدسي النفس، وتقمعها، فتنخفض، وتصير كالذي يدس في التراب .
لقد أحيا أهل الطوفان في نفوسنا التوق إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى الصلاة في المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ضربوا لنا أروع الأمثلة، في الصبر والثبات، والتضحية والبذل، وبينوا لنا عن قرب، كيف كانوا قرآنا يمشي على وجه الأرض، وصورا حية تتمثل سنة نبينا العظيم.
ألا يستدعي الأمر، وقفة مع النفس، تعيد إعمار ما خربناه بأيدينا، حينما غرقنا في الشهوات، وضاعت منا العبادات، وتفلت من بين أيدينا الذكر والطاعات، وصرنا أسرى الموائد والهواتف ومواقع التواصل وقنوات الفيديو وأزياء الموضة وأوراق البنكنوت، فتكالبت علينا الأمم كما تتكالب الأكلة إلى قصعتها.
إن مشروع إعادة إعمار النفس، يتطلب العمل بدأب وإخلاص وتفان، والتخطيط المدروس لحصر ما ألم بالنفس من آثار ضارة، ومظاهر تلف وتصدع، وكشف الثغرات والسلبيات، من خلال مصارحة حقيقية ومراجعة جادة ومحاسبة يقظة، ثم وضع الخطط العملية لإعادة صقل النفس، وإعمار العقول والقلوب من جديد.
ليتزود المسلم من كتاب الله، ويبحر في علوم القرآن الكريم، يستقي من آي الذكر الحكيم ما يرمم به نفسه، ويحيي به قلبه، ويوقظ به ضميره، يقول عمر بن الخطاب رضِي اللهُ عنه: حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنَّه أخفُّ عليكم في الحسابِ غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبرِ، كذا الأكبرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (سورة الحاقة، آية 18).
لتبدأ بنفسك، فتعمرها، وتطهرها، وتسقيها بماء الخير والفضيلة، قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفت معناه، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا".
إن عملية إعادة الإعمار، تتطلب شخصية إيجابية، وإرادة قوية، وعزيمة صلبة، حتى تنجح في مبتغاها، يروى أن التابعي الجليل "الربيع بن خثيم" حفر لنفسه قبرا في بيته فكان ينزل فيه أحيانا ثم ينادي: "رب ارجعون.. رب ارجعون".. ثم إذا قام يقول لنفسه: "ها قد رجعت فجدي واعملي".
إن شهر رمضان بنفحاته الإيمانية فرصة لهذا الإعمار، إذا صدقت النوايا وخلصت النفوس، ليختلي المرء بنفسه صائما مصليا قائما معتكفا ذاكرا خاشعا لله، لنكثر من الصدقات والزكوات، لنتأهب للعمرة والحج، لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لنحسن أخلاقنا ومعاملاتنا مع الناس، لنتقن العمل والعبادة، وغير ذلك من أحوال المؤمن التي تسمو بنفسه وروحه، قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا، ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائدا.
هيا نتعلم الدرس من أهل غزة، ونبدأ عملية إعادة إعمار النفس.