أسطول الصمود وحصار غزة.. دلالات الشجاعة وواجبات الإنسانية

لسنتين مضتا يسود صمت طويل، صمت مخز في العالمين
العربي والإسلامي، وتواطؤ منظم للنظام الدولي قائم على معايير مزدوجة، أفضى بالمظلومين
في غزة إلى براثن الجوع والعطش والموت البطيء، أمام أعين البشر وضمائر الإنسانية ترتكب
هذه الجرائم، لكن كثيراً من الدول تلتزم الصمت، وكثيراً من المؤسسات تغلق عيونها وتخرس
مسامعها.
وفي ظل هذا السواد البهيم، برزت بادرة تحيي
كرامة البشر؛ «أسطول الصمود» جمع وراءه عشرات سفن إغاثية، وحشد مئات الضمائر من شتى
أصقاع الأرض في قافلة واحدة؛ فأعطى الأمل للغزيين، وما أمله لشعوب تلهفت على الرحمة
والإنصاف.
لم يكن هذا الأسطول مجرد قافلة غذائية؛ بل
كان صرخة ضد الظلم، ونبراساً في ظلمة الخذلان، ومشعلًا في ليل الانكسار، وإعذاراً إلى
الله تعالى، وغسلاً لعار العرب والمسلمين الذي لحق بهم جراء الخذلان الشامل الذي استمر
لعامين كاملين!
شجاعة الأبطال.. من خاطر بحياته فأحيا غيره
من ركب هذا الأسطول لم يكونوا ركاباً عاديين؛
بل كانوا أبطالاً حملوا على عواتقهم شرف الإنسانية، تخطوا مخاوفهم، وتركوا وراءهم أمانهم،
وانطلقوا إلى إخوة في حصار خانق مع علمهم أن الطريق قد لا تعود بهم إلى أهليهم وأوطانهم،
وكان أهم همهم ليس النجاة لأنفسهم، بل إبقاء الحق حيا، وأن يسمع صوت المظلومين، وأن
تفك عنهم قيود الجوع والبرد والقهر.
لم يحملوا سلاحاً، بل حملوا الحليب للرضع،
والدواء للجرحى، والبطانيات للعرايا؛ وحملوا معهم صوت الضمير، كل منهم صار صوتاً يمزق
خشخشة السكوت، ونجمة تلمع في ليل اليأس، وشجاعتهم لم تقتصر على غزة فحسب؛ بل كانت امتحاناً
لضمير الإنسانية بأسرها، معلنة أن الاستشهاد في سبيل الله والمستضعفين في الأرض أكرم
وأرفع من العيش في رضا الظالم.
هذه الرحلة لم تكن فصلاً معزولاً في تاريخ
الصراع بين الحق والباطل؛ وإنما فصل جديد من أمس طويل، أبان فيه الأبطال أنه حيثما
دار الظلم تشير انقلابة البوصلة دوماً نحو المعاناة والغيرة على الكرامة.
طغيان المحتل ويداه القذرتان تمتدان إلى الأبطال
لم تستح دولة الاحتلال من أن تظهر وجهها القبيح
أمام العالم، فقد اعتبرت هذه البادرة الإنسانية تهديداً، فأظهرت عنفها في أعالي البحار؛
انتهكت القانون الدولي، واعتدت على السفن، واعتقلت المتطوعين، وصادرت ما كانت تحمله
السفن من أدوية وطعام وبطانيات، فضربت أسوأ الأمثال في الإجرام والبربرية.
والحال أن ما كان على هذه السفن من حمولات
لم يكن سلاحاً ولا ذخائر، بل كان قطرات رحمة تطفئ رمق جائع، أو تدفئ جسد طفل يعاني
من البرد، أو تداوي جرحاً ما زال ينزف، ومع ذلك، أخاف الاحتلال من تلك اللقمة والدواء؛
لأن الحقيقة، حينما ترفع، تقوض إمبراطورية الكذب التي شيدوها بالقتل والتهجير.
اليوم وقد بلغ عدد الشهداء والمصابين والعوائل
المشردة مئات الآلاف، وقد دمرت البنى التحتية والمستشفيات، صار المشهد ليس حرباً فحسب،
بل مسعى متعمداً لإبادة شعب، والاعتداء على أسطول الصمود ليس سوى فصل إضافي في هذا
المسار الإجرامي، محاولة لإسكات صوت التضامن الإنساني.
إن المحتل رمى برسالته القاسية على العالم:
من يعاون المظلوم فسيعاقب؛ فليخش العون من يعينه! كل ذلك لم يخف حقيقة واحدة؛ أن الظلم
إن أقام له بناية ظاهرة، فهو داخلياً متصدع، وأن الاحتلال مهما طال فلا بد من التحرر
والاستقلال.
واجباتنا تجاه الأبطال.. السكوت خيانة
هذا الإقدام البطولي لم يأت ليظل حكاية فقط؛
بل حملنا أعباء وواجبات لا تمحى، إن طرح الأرواح في سبيل إنقاذ إنسان آخر، يستوجب علينا
أن نعيد لهؤلاء الأبطال كرامتهم بحرية عاجلة، الحماية والضغط الدبلوماسي والقيم القانونية
كلها أدوات يجب أن تستعمل لإطلاق سراحهم، وأن تستعاد الحمولات وتكمل المسيرة.
كما أن المهمة التي انطلقت ليست وقفة عابرة،
بل حركة وعي لا بد من استمراريتها، إن أكثر من 500 متطوع من 20 دولة وهمهم صون كرامة
الغزيين أرسل للعالم رسالة واضحة: «غزة ليست وحدها»، فواجبنا أن نسمع هذه الرسالة بصوت
أعلى، وأن نعد أساطيل إغاثية أخرى، وأن نكسر الحصار بكل الوسائل المشروعة الممكنة.
هذا الواجب لا يقع على كاهل الحكومات وحدها؛
فهو على عاتق الشعوب والمجتمع المدني وكل فرد بما يملك؛ دعاء صادق، دمعة تفيض شفقة،
قلم يكتب الحق، جسد ينزل الميادين، منشور يظهر الحقيقة في منصات التواصل.. كل هذا لبنات
تبنى بها قيادة الضمير العالمي؛ لأن السكوت عن الظلم يغذيه؛ والصوت الرشيد وحده يقطع
رباط الوحشة.
التمسك بقضية هؤلاء الأبطال ليس مدار يوم
عابر، بل هو التزام لمستقبل أولادنا، فنجاة غزة وحرية القدس وكرامة الإنسان مرهونة
بإقدامنا اليوم، وباستجابتنا لما أمرتنا به الشريعة والضمير والإنسانية.
نهاية الطغيان المحتومة.. وعد الأمل
أوصتنا سنوات التاريخ أن مملكة الظلم لا تدوم؛
الفراعنة غرقوا في طغيانهم، ونمرود زال، ودور الجبابرة انتهى، والكيان الذي يقيس قوته
بصواريخ ودبابات لن يفلت من قضاء الله وسُننه في الكون والحياة؛ فإن الظلم لا يبقى
إلا ليفضح، والباطل لا يصمد أمام إرادة الحق ومقاومة الفطرة.
قد تبدو آلة الحرب لهم جامدة وقوية، لكنها
داخلياً متصدعة من هزيمة أخلاقية لا دواء لها، إن محاولات قطع طرق الإغاثة، وسجن المتطوعين،
وقمع صوت التضامن ليست سوى دلالات على الذعر والإنهاك؛ لأنهم يعلمون أن قطع رحم الإنسان
بالحياة سيجلب عليهم حكما تاريخيا لا مفر منه.
والأمل ينبثق في أحلك اللحظات؛ دموع أطفال
غزة، وصلوات أهل القدس، وأصوات «الله أكبر» التي ترتج تحت قباب «الأقصى»، كلها علامات
بزوغ فجر جديد، أساطيل الصمود اليوم قد تثمر غداً أساطيل تحرر، وحصون الاحتلال اليوم
ستنهار في صباح الحرية.
فلنكبر الأمل بدل أن نغرق في التشاؤم، كل
كلمة نطلقها، وكل خطوة نخطوها، تزيد في تسريع موعد النهاية، مقاومة غزة، ويقظة الأمة،
ونهوض الإنسانية، كل ذلك يصوغ معاً وجه التاريخ القادم، وذاك اليوم قادم لا محالة.
ستعود فلسطين حرة، والقدس ستستعيد نبضها،
و«الأقصى» سيرفع عن كاهله قيود الاحتلال، والأسرى سيخلصون من الأغلال، أسماء الذين
خاطروا بحياتهم لهذا الخير ستدون بأحرف من نور في صفحات التاريخ، وشجاعتهم ستكون منارات
تنير دروب الأجيال، هذه الحقيقة ليست أمنية بقدر ما هي وعد إلهي ومآل تاريخي: الظلم
لا يدوم، والعدالة ستنتصر حتماً، والحرية ستشرق مع فجرها الجديد القريب!