«أغاني المهرجانات».. بين التغيُّر السوسيولوجي والمسؤولية الأخلاقية!

د. صفاء البيلي

14 ديسمبر 2025

63

عبر وسائل المواصلات العامة نادراً ما لا تسمعها وهي تصرخ ملء أذنيك، ولا مجال لإيقاف سيلانها أو حتى تخفيض ضجيج إيقاعاتها التي تضرب كل جزء منك وكأنك في خضم معركة لا تستطيع منها فكاكاً!

إنها أغاني المهرجانات التي صارت ظاهرة فنية واجتماعية شديدة التعقيد، تتجاوز كونها مجرد صيحة موسيقية عابرة لتصبح مؤشرًا سوسيولوجيًا بالغ الأهمية على تحولات عميقة طرأت على بنية المجتمع العربي، وطبيعة التعبير، وحدود الذوق العام.

لقد فرضت هذه الموجة إيقاعها الصاخب على المشهد الثقافي العربي، وبدلاً من إدانتها أو تهميشها، أصبح لزامًا علينا مواجهتها بتفكيك شيفرتها لفهم الأبعاد الاقتصادية والسياسية التي أسهمت في إطلاق شرارتها كطلقة طائشة، انتشرت كالنار في الهشيم والمسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتق كل من المنتج والجمهور المستهلك في توجيه مسارها؛ إذن، فالمعالجة الرصينة لهذه الظاهرة تتطلب منا تجاوز الأحكام المسبقة والغوص في تحليل أبعادها الأخلاقية والسوسيولوجية.

الجذور والبعد السوسيولوجي

وبالبحث عن أصول هذه الظاهرة عبر الكثير من الوسائل، توصلنا إلى أنها ليست ذات منشأ أوروبي خالص، إنها ابتكار مصري شعبي أصيل في كلماته وهويته، نشأت في الأحياء الشعبية بمدن القاهرة والإسكندرية، وتحمل في جذورها تعبيراً حقيقياً عن صوت المهمشين، وتحديداً شباب الطبقات الشعبية، ممن عانوا من غياب فرصهم الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

وهكذا انفجر هذا الفن كوسيلة لتفريغ السخط والغضب المكبوت، مقدماً لأصحابه فضاءهم الاحتفالي الخاص، بلغتهم اليومية الجريئة والمتمردة، التي جاءت في كثير من الأحيان محاكاة لواقعهم القاسي، بينما اعتمد شكلها الموسيقي على المحلية، بدمجها مستعيراً أدوات ومنهجيات وتقنيات من الموسيقى الغربية مثل «التكنو» و«الراب»، و«الدريل» التي تستخدم نفس الإيقاع الأساسي لـ«الهيب هوب»، إلا أن روحها وإيقاعاتها ومضمونها تحمل طعم البيئة المصرية الشعبية.

ثم انتقلت الظاهرة مندفعة بقوة من الهامش إلى المتن/المركز بتضافر العديد من العوامل  التي كان من أهمها الانتشار التكنولوجي، المتمثل في سهولة أدوات الإنتاج الرقمي ورخصه، وهو ما حطم حاجز احتكار الأستوديوهات التقليدية، أما العنصر الأكثر تأثيراً فهو الانتشار الواسع للهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي، مثل: «فيسبوك» و«تيك توك» وعلى رأسها «يوتيوب»، الذي كان منصة مثالية للانتشار الأفقي والعمودي لتلك الأغاني؛ ما ساعد على تجاوز مسألة الرقابة الرسمية على المنتج كونه مصنفاً فنياً.

وعلى وجه التقريب، كانت الفترة فيما بعد عام 2011م لحظة الانفجار الكبير للظاهرة، وذلك تزامناً مع حركات التحرر السياسي النسبي مع التحرر غير المسبوق في الخطاب العام واللغة المستخدمة، ليعيد هذا الفن فك وتركيب الذوق العام من جديد، وهو ما أدى إلى صراع واضح بين ذوق المركز (الطبقات العليا) وذوق الهامش (الطبقات الشعبية)!

الانتشار الجغرافي والجمهور المستهلك

ومع أن الظاهرة مصرية، فإنها تجاوزت حدود المنشأ لتصبح قوة إقليمية مؤثرة، معتمدة على الرقمنة والتكنولوجيا بشكل أساسي، لتنتشر أغانيها في الوطن العربي كله، وتتصدر قوائم الاستماع في دول المغرب العربي، ويستهلكها بكثافة دول الخليج (بخاصة السعودية والإمارات والكويت)؛ وذلك لوجود الجاليات المصرية بأعداد كبيرة رغم أنها لم تحظ بالشرعية الكاملة في الحفلات العلنية الكبرى هناك.

أما عالميًا، فقد وصلت هذه الأغاني إلى جمهور غير عربي كدليل ثقافي على الحياة الشعبية المصرية، وهو ما نطلق عليه «المثاقفة»؛ بمعنى تبادل الثقافات بين الشعوب، أما عن الجيل الذي ارتبط بهذا الفن، فهو في الغالب جيل الشباب والمراهقين، وتحديداً الفئة العمرية ما بين 15 إلى 30 عامًا تقريبًا، وخاصة فئة المشتغلين بالمهن اليدوية المختلفة (الصنايعية)، ومنها انتقل إلى الطبقات الأعلى ثقافياً واجتماعياً.

جدل اللغة والمضمون والقيمة

وعلى الرغم من القيمة السوسيولوجية لهذه الأغاني كونها تعبر عن واقع مجتمع ما، فإنها أثارت جدلاً أخلاقياً لا يمكن إغفاله، لتجاوزها حدود الجدل الفني ما يجعلها تنخر في جوهر القيم المجتمعية، وحتى لو غضضنا الطرف عن الاعتراف بذلك، فهذا الأمر قائم لا مراء فيه.

ويقوم النقد الأخلاقي الموجه لأغاني المهرجانات على مجموعة من المرتكزات المهمة، منها اللغة التي تكتب بها والألفاظ الخارجة، أو الإيحاءات، كما أنها تتجاوز في كثير من الأحيان حدود اللياقة المقبولة اجتماعياً، وتعمل على كسر حاجز الحياء اللفظي وتطبيع مفردات الهامش وجعلها عادية في مجال التعامل اليومي، وهو ما يؤثر بشكل سلبي على لغة الأجيال الجديدة، وبخاصة الأطفال.

كما يركز النقد على تسليع المرأة؛ جسدها وخصائصها الشكلية، وتصوير العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار من التملك أو حتى الإساءة، وهو ما يمثل تهديدًا للقيم الاجتماعية التي تدعو إلى احترام المرأة ومكانتها.

كما يعلي من قيم العنف وتغليب الأنا وتمجيد البلطجة، ومخالفة القانون، والتباهي بالطبقية، والترويج لتعظيم الأنا الفردية وتغليب المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة، بقيم قد تترجم من لدن المتخصصين بأنها سلوكيات خارجة عن الإطار الأخلاقي العام.

المعالجة الأخلاقية

يبدو أن الحل المستدام لهذه الإشكالية في تفعيل الرقابة الذاتية المشتركة التي تُرسِّخ مفهوم المسؤولية الإبداعية، بدلاً من المنع المطلق، ذلك الذي لن نستطيعه مهما حاولنا، وهذه الآلية هي التي ستفرض التزامًا أخلاقيًا داخليًا من قِبل كل من صانع المحتوى، وهو يمثل الرقابة الذاتية المهنية، ومسؤوليته الأخلاقية هذه ستنبع من كونه شريكاً في تكوين الوجدان الجمعي عبر اختياره للكلمات التي سيقدمها للجمهور.

كما يتوجب عليه البحث عن لحن قوي وتوزيع حديث وطرح القضايا بلغة مهذبة وراقية، بدلاً من الاعتماد على الابتذال اللفظي أو الإيماءات المثيرة والموسيقى السطحية ذات الرتم الواحد، كما يمكنه الاستعانة بشخص ذي ثقة، شخص لا ينتمي لفريقه ليصبح مرآته الأخلاقية التي يعرض عليها أعماله قبل طرحها للجمهور ليرى مدى مناسبتها للذوق العام وأخلاقيات وأعراف المجتمع.

مسؤولية فردية ومجتمعية

نعم، ما يزال الجمهور الطرف الأقوى؛ لأنه المتحكم اقتصادياً في هذه المعادلة الصعبة؛ ولذا، فإنه عندما يمتلك ذائقة سوية، سيمتلك وعيَ المقاطعة لأي محتوى رديء أو مخل، وبهذا فإنه سيرسل رسالة اقتصادية لصناع هذه السوق بأن الاستثمار في الإسفاف خسارة، بالإضافة إلى أن التوعية الأسرية الهادئة والمبنية على النقاش والمودة ستمكن الشباب من تنمية حسهم النقدي لفرز الجيد من الرديء.

كما يجب ألا يقتصر دور المؤسسات والنقابات الفنية على القمع والمنع عبر الرقابة المختصة؛ إذ إنه بإمكانها القيام بدور تنظيمي ووضع معايير مهنية وأخلاقية واضحة للمحتوى المقدم لا تقبل التفاوض، أما الحل الأنجع؛ فهو المواجهة الثقافية، وذلك بدعم إنتاج بدائل فنية هادفة تتناول قضايا الشباب والمجتمع بنفس القدر من الجاذبية الموسيقية الحديثة، ولكن بمضمونٍ بنّاء يرتقي بالذوق العام.

لن ننجح بالاكتفاء بمحاسبة المخرجات (أغاني المهرجانات)، ولكننا قد ننجح بالسعي في إصلاح المُدخلات (إصلاح الشؤون الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للشباب) تلك التي أسهمت في إنتاج وانتشار هذا النمط الفني الهابط، فالفن - في نهاية الأمر- صاحب رسالة مجتمعية لا يمكن أن ينفصل عنها، أما تربية الذوق العام فهو مهمة مشتركة بين المبدعين أنفسهم والمؤسسات والضلع الأكبر الذي هو الجمهور.



اقرأ أيضاً:

أغاني «المهرجانات».. فوضى ضد الإبداع

الأغاني غير العربية.. سم يهدد هوية المراهقين

مآلات تعلق المراهقين بالأغاني الأجنبية.. «البوب الكوري» نموذجاً

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة