إدارة الغضب في الحياة العصرية.. مفاتيح الهدي النبوي لمواجهة الضغوط النفسية

حين نتحدث عن الغضب، فإننا نتحدث عن شعور إنساني فطري لا يمكن منعه كلياً، فالإنسان يغضب حين يتعرض للاستفزاز، أو للظلم الذي لا يستطيع دفعه.

والغضب نوع من أنواع النار، يمكن استخدامها كطاقة إيجابية تدفع الإنسان لتحقيق العدالة وإزالة الظلم، وتنير له طريقه ليحقق دستور الحياة السوية على الأرض، ويمكن أن تتحول إلى عامل سلبي يحرق معها الحياة الزوجية، أو الحياة الاجتماعية.

وفي زمننا، حيث تتسارع وتيرة الحياة وتزداد التحديات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، صار الغضب حاضراً في تفاصيل الحياة اليومية، ومن هنا تزداد الحاجة إلى العودة إلى الهدي القرآني والنبوي الذي وضع منهجاً متكاملاً في تربية النفس المسلمة وضبط انفعالاتها.

الغضب في القرآن الكريم.. من المذموم إلى المحمود

ذكر الغضب في كتاب الله عز وجل على أكثر من صورة وموضع، فمنه المذموم الذي يجب مقاومته، ومنه المحمود الذي يجب تأصيله في النفس المسلمة الحرة،

والغضب المحمود هو الذي يكون لله تعالى والدفاع عن الحرمات، وهذا مطلوب من المسلم(1)، وقد أشار القرآن إلى الغضب في سياقات متعددة، منها قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)؛ أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم، وقد ورد في بعض الآثار: يقول الله تعالى: «ابن آدم، اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت، فلا أهلكك فيمن أهلك» (رواه ابن أبي حاتم)(2).

وفي ذكر صورة أخرى من صور الغضب، يذكر القرآن غضب موسى عليه السلام حين رجع من لقاء الله فوجد قومه في حالة معصية أدخلتهم في الشرك، فقال تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 150).

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفًا، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه، وأن السامري قد أضلّهم، فكان رجوعه غضبان أسفًا لذلك(3).

الهدي النبوي في مواجهة الغضب

قدم النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً سامياً في التعامل مع الغضب، فقد كان أكثر الناس حلماً وصبراً على أذى الناس، وأبعد ما يكون عن الانفعال المذموم، فعن أبي هريرةَ أنَّ رَجُلًا قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني، قَالَ: «لا تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرارًا، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» (رواه البخاري)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكررها يلخص طريق السعادة الإنسانية والسكون والطمأنينة في كلمة واحدة وهي البعد عن الغضب.

وعن أبي هريرة، أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (متفق عليه)، وهنا ينبه أن القوة الحقيقية ليست في إظهار الغضب والتغلب على الناس وإنفاذ طاقة الغضب التي ينتج عنها آثار سلبية لا يمكن التنبؤ بها إذا أطلق لها العنان، هي قوة السيطرة على النفس والتحكم بها وسوقها نحو الخير لا البطش بالآخرين، وعدم ترك عنان القيادة لها لتنفلت.

نصائح نبوية ناجعة للتحكم في الغضب

وإذا ترك الإنسان لقدرته الخاصة كي يتحكم في غضبه ورغبته في الانتقام، فلن يستطيع بذاته الحصول على تلك القدرة، ولذلك فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم وسائل عملية يلجأ إليها المسلم فوراً إذا تعرض لما يغضبه على المستوى الشخصي، ومن هذه الخطوات كما وجه إليها عليه الصلاة والسلام:

1- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فيقول صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (رواه البخاري).

2- أن يغير الغاضب حاله التي هو عليها أثناء الغضب، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» (رواه أبو داود)

3- قال صلى الله عليه وسلم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» (رواه أبو داود).

الغضب وضغوط الحياة العصرية

والحياة العصرية اليوم تتسم بالتعقيد، فحاجة الإنسان تقتضي العمل لساعات طويلة، مع ضغط الإنتاج وملاحقات المديرين وعقاب المقصرين، إلى جانب الأزمات المادية المتكررة في بيوت البسطاء، ثم التحديات الأسرية وتفكك الروابط الاجتماعية، كل تلك الإشكاليات يضطر الإنسان لمواجهتها يومياً؛ ما يضاعف دواعي الغضب لديه وقلة صبره، فيضعه في مربع الباحث دوماً عمن يصب فيه غضبه، قد يكون الابن، وقد تكون الزوجة، وقد يكون الطالب أمام المعلم، وقد يكون الموظف أمام مديره، ولا سبيل أمام الإنسان إلا أن يتبع خطوات النبوية في الحد من ظاهرة الغضب والخلاص منها.

الغضب على منصات التواصل

ومن الوسائل الجديدة لنشر ظاهرة الغضب، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت نافذة لتصريف الغضب دون أن يحاسب أحد صاحبه وذلك في صورة تعليقات هجومية غاضبة، أو شتائم، أو ما هو أبشع من كل هذا حين يتحول الغضب لاستباحة الأعراض ونشر الشائعات، وهو صورة من صور العنف اللفظي والنفسي.

وقد شدد الإسلام في النهي عن التعدي اللفظي على الناس وإيذائهم، وعلى قيمة ضبط اللسان فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت» (رواه البخاري، ومسلم).

الغضب في العلاقات الأسرية

أكثر البيوت تهدمها كلمة غضب، وأكثر القلوب تكسرها لحظة انفعال غير محسوبة، وقد أراد الإسلام للأسرة أن تقوم على السكينة والمودة والرحمة والحب والتفاهم والتراحم، ومن ثم دعا الرجل والمرأة إلى الصبر وضبط النفس، وقد أثبتت الدراسات الأسرية الحديثة أن إدارة الغضب داخل البيت أهم من الموارد المادية في حفظ استقرار الأسرة.

الغضب والقيادة المجتمعية

والقائد الذي لا يضبط غضبه لا يمكن أن يكون قدوة، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أرفع مثالاً في الحلم حتى مع أشد أعدائه، يقول أنس بن مالك: «خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أُفّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟» (رواه مسلم).

الغضب نار مشتعلة في فطرة الإنسان، لكن الشرع الحنيف جعل لها مفاتيح للضبط والتوجيه، ورفع القرآن شأن الكاظمين الغيظ ليكونوا في عبادة على مدار الساعة، ويبقى التحدي الأكبر لكل مسلم أن يوازن في غضبه بين الدنيا والآخرة.




______________________

(1) موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن، ج10، ص 100.

(2) تفسير ابن كثير في تفسير سورة «آل عمران».

(3) تفسير الطبري.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة