اقتصاد الغياب.. القوة الإنتاجية لما لا يُقال في الإسلام

في عالمٍ يُقدّس الحضور، ويُقاس فيه كل شيء بما يُقال ويُعلن، يبرز «الغياب» كقيمة رمزية مهملة، لكنها حاسمة في تشكيل البنية الاقتصادية للمجتمعات الإسلامية.

هذا المقال يستكشف كيف يُمكن للغياب -بمستوياته اللغوية، والاجتماعية، والرمزية- أن يُنتج أثرًا اقتصاديًا عميقًا، يُعيد تعريف مفاهيم القيمة، والتوزيع، والشرعية.

1- الغياب كأداة إنتاج رمزية:

في التراث الإسلامي، يُعد السكوت فعلًا ذا دلالة، لا مجرد انعدام للكلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (رواه البخاري، ومسلم).

الصمت هنا ليس حيادًا، وإنما اختيار إنتاجي؛ فإما أن تُضيف خيرًا، أو تُمارس الغياب كحماية للمنظومة الرمزية.

والغياب في هذا السياق يُنتج بيئة آمنة، يُقلل من الضوضاء الرمزية، ويُعيد توزيع السلطة بين المتكلم والصامت؛ ما يُشكّل اقتصادًا رمزيًا غير مرئي، لكنه فعّال.

2- الغياب في العقود والمعاملات.. الاقتصاد غير المُصرّح به:

في الفقه الإسلامي، تُوجد معاملات تُبنى على السكوت، مثل السكوت عند الإيجاب، أو السكوت في البيع عند الرضا الضمني، هذا النوع من الغياب يُنتج شرعية دون تصريح، ويُعيد تعريف مفهوم القبول بوصفه فعلًا غير لفظي.

قال الإمام النووي في «المجموع»: «السكوت في موضع الرضا يُعد قبولًا، إذا اقترن بقرائن الحال» (المجموع، ج9، ص78، دار الفكر).

هذا يُشير إلى أن الغياب ليس انعدامًا، وإنما شكل من أشكال الحضور الرمزي، يُنتج أثرًا قانونيًا واقتصاديًا.

3- الغياب كإستراتيجية توزيع:

في المجتمعات الإسلامية التقليدية، يُمارس الغياب كوسيلة لتوزيع الموارد دون إثارة الحسد أو التوتر، تُعطى الصدقات دون إعلان، وتُوزّع الأوقاف دون نسبتها إلى جهة معينة، هذا النوع من الغياب يُنتج اقتصادًا رمزيًا يُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية؛ قال تعالى: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة: 271).

الإخفاء هنا ليس فقط أخلاقيًا، وإنما اقتصادي؛ يُعيد توزيع القيمة دون خلق مركزية أو تفاخر.

4- الغياب في الخطاب الاقتصادي.. ما لا يُقال أهم مما يُقال:

الخطاب الاقتصادي المعاصر يُركّز على ما يُقال: الأرقام، والتصريحات، والمؤشرات، لكن في المجتمعات الإسلامية، كثير من القرارات تُبنى على ما لا يُقال؛ التقدير، والحياء، والرمزية، والتلميح.

في كتاب «إحياء علوم الدين»، يُشير الغزالي إلى أن الحياء يُنتج أفعالًا لا تُقال، لكنها تُغيّر الواقع. (الإحياء، ج3، ص145، دار المعرفة).

هذا يُعيد تعريف الفعل الاقتصادي بوصفه مركّبًا من القول والغياب، من التصريح والتلميح، من الحضور والستر.

5- تطبيقات معاصرة: كيف نُعيد الاعتبار للغياب في الاقتصاد؟

  • العمل الخيري: تصميم نماذج توزيع لا تعتمد على الإعلان، بل على التقدير الرمزي والسكوت المقصود.
  • القيادة المؤسسية: تبني أساليب إدارة تعتمد على الغياب الرمزي، مثل عدم التدخل المباشر، أو التوجيه غير المعلن.
  • التقييم الأكاديمي: إدخال عناصر مثل السكوت في موضع النقد أو الغياب في لحظة التقدير كجزء من أدوات التقييم الرمزي.

اقتصاد الغياب كدعوة لإعادة التوازن

اقتصاد الغياب لا يُلغي الحضور، بل يُعيد التوازن بينهما، إنه دعوة لفهم أن ما لا يُقال قد يكون أكثر إنتاجًا مما يُقال، وأن القيمة لا تُقاس فقط بالتصريح، بل بالسكوت، بالتلميح، وبالرمز.

في زمنٍ يُقاس فيه كل شيء بالضجيج، يُعيد اقتصاد الغياب الاعتبار للصمت، للستر، ولما لا يُقال، بوصفه فعلًا اقتصاديًا يُنتج، ويُوزّع، ويُبارك.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة