إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (28)
التحلي بالأمانة صمام الأمان للداعية

إذا فقد الداعية الأمانة، ضاع منه الدين،
وتزعزعت ثقة الناس بكلامه، وانقلبت الدعوة إلى صورة مشوَّهة لا تقنع قلباً ولا
تحرك وجداناً، والأمانة ليست شعاراً يُرفع، بل روح تسري في كل قول وعمل؛ بها يحفظ
الداعية حق الله، ويصون حقوق الناس، ويؤدي العلم كما تلقّاه من غير زيادة ولا
نقصان.
وقد أدركت الحضارة الإسلامية منذ فجرها
أن بناء الداعية الأمين هو صمام الأمان لاستمرار الدعوة نقية صافية.
مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على التحلي بالأمانة
1- الأمانة في الجوانب العلمية:
تنوعت صور الأمانة العلمية في التربية
الدعوية للحضارة الإسلامية، حيث وضع العلماء علم الجرح والتعديل، واهتموا
بالأسانيد في قراءة وحفظ القرآن الكريم، وكذلك رواية الأحاديث النبوية الشريفة،
وذلك حرصاً على حفظ الوحي وبناء العلوم وحمايتها من الزيادة والنقصان، حتى جعلوا
ذلك من الدين، ففي مقدمة صحيح مسلم عن عَبْداللهِ بْن الْمُبَارَكِ قال: «الْإِسْنَادُ
مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ»(1)،
كما ظهر اهتمام الدعاة بالأمانة العلمية في الفقه والفتوى، حيث روي عن غالب الأئمة
قولهم: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»(2)، وهذا إقرار عملي بأن الأمانة
العلمية تقتضي تقديم النص الشرعي على الرأي الشخصي.
2- الأمانة في الوظائف الإدارية:
من الأمانة وضع الشيء في موضعه، فلا يسند
منصب إلا لمن امتلك الكفاءة اللازمة له، وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
على ضرورة امتلاك المؤهلات اللازمة للوظيفة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ،
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ
بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا
أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ
أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وأدى الذي عليه فيها».
3- الأمانة في التعاملات المالية:
من يطالع سير العلماء والدعاة في الحضارة
الإسلامية يجد أنهم كانوا يحرصون على العمل، ويكسبون أقواتهم بأياديهم؛ ما دفعهم
إلى التعاملات المالية مع الناس، وقد ظهرت دعوتهم إلى الأمانة في ذلك من خلال
التطبيقات العملية، فهذا أبو حنيفة كان له شريك في التجارة، يقال له: بِشْر، فخرج
بِشر في تجارته بمصر، فبعث إليه أبو حنيفة سبعين ثوباً من ثياب خَزّ، فكتب إليه:
إن في الثياب ثوباً خَزّاً معيباً بعلامة كذا، فإذا بعته فبيِّن للمشتري العيب،
قال: فباع بِشر الثياب كلها، ورجع إلى الكوفة، فقال أبو حنيفة: هل بيَّنت ذلك
العيب الذي في الثوب الخزّ؟ فقال بِشر: نسيت ذلك العيب، فقال: فتصدق أبو حنيفة
بجميع ما أصابه من تلك التجارة؛ الأصل والفرع جميعاً، وقال: مالٌ قد دخلت فيه
الشبهة، فلا حاجة لي به(3).
ومن ذلك أيضاً: النصح لمن غفل عن القيمة
المالية لسلعته، فقد روى أحمد عن أبي السباع قال: اشْتَرَيْتُ نَاقَةً مِنْ دَارِ
وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ بِهَا، أَدْرَكَنَا وَاثِلَةُ
وَهُوَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: يَا عَبَدَاللهِ، اشْتَرَيْتَ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ، قَالَ: هَلْ بَيَّنَ لَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ:
إِنَّهَا لَسَمِينَةٌ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ، قَالَ: فَقَالَ: أَرَدْتَ بِهَا سَفَراً،
أَمْ أَرَدْتَ بِهَا لَحْماً؟ قُلْتُ: بَلْ أَرَدْتُ عَلَيْهَا الْحَجَّ، قَالَ:
فَإِنَّ بِخُفِّهَا نَقْباً، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبُهَا: أَصْلَحَكَ اللهُ، مَا
تُرِيدُ إِلَى هَذَا تُفْسِدُ عَلَيَّ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا
أَلَّا يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَلَّا
يُبَيِّنُهُ».
4- الأمانة في التعامل مع المال العام:
وفد على عمر بن عبدالْعَزِيز بريد من بعض
الْآفَاق، فَانْتهى إِلَى بَاب عمر لَيْلاً فقرع الْبَاب، فَخرج إِلَيْهِ البواب
فَقَالَ أعلِم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن بِالْبَابِ رَسُولاً من فلَان عَامله فَدخل
فَأعْلم عمر، وَقد كَانَ أَرَادَ ينَام فَقعدَ، وَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَدخل
الرَّسُول فَدَعَا عمر بشمعة غَلِيظَة فأججت نَاراً وأجلس الرَّسُول، وَجلسَ عمر
فَسَأَلَهُ عَن حَال أهل الْبَلَد وَمن بهَا من الْمُسلمين، وَأهل الْعَهْد،
وَكَيف سيرة الْعَامِل، وَكَيف الأسعار، وَكَيف أَبنَاء الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار وَأَبْنَاء السَّبِيل والفقراء، وَهل أعْطى كل ذِي حق حَقه، وَهل
لَهُ شَاك، وَهل ظلم أحداً؟
فَأَنْبَأَهُ بِجَمِيعِ مَا علم
الرَّسُول من أَمر تِلْكَ المملكة، فَلم يدع شَيْئا إِلَّا أنبأه بِهِ، كل ذَلِك
يسْأَله فيحفي السُّؤَال، حَتَّى إِذا فرغ عمر من مَسْأَلته قَالَ لَهُ: يَا
أَمِير الْمُؤمنِينَ، كَيفَ حالك فِي نَفسك وبدنك وَكَيف عِيَالك وَجَمِيع أهل
خزانتك وَمن تعنى بِشَأْنِهِ؟
قَالَ: فَنفخ عمر الشمعة فأطفأها بنفخة،
وَقَالَ: يَا غُلَام، عَليّ بسراج، فَدَعَا بفتيلة لَا تكَاد تضيء، فَقَالَ: سل
عَمَّا أَحْبَبْت، فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأخْبرهُ عَن حَاله وَحَال وَلَده
وَعِيَاله وَأهل بَيته، فَعجب الْبَرِيد للشمعة وإطفائه إِيَّاهَا! وَقَالَ: يَا
أَمِير الْمُؤمنِينَ، رَأَيْتُك فعلت أمراً مَا رَأَيْتُك فعلت مثله! قَالَ: وَمَا
هُوَ؟ قَالَ: إطفاؤك الشمعة عِنْد مَسْأَلَتي إياك عَن حالك وشأنك، فَقَالَ: يَا
عبدالله، إِن الشمعة الَّتِي رَأَيْتنِي أطفأتها من مَال الله وَمَال
الْمُسلمين وَكنت أَسأَلك عَن حوائجهم وَأمرهمْ فَكَانَت تِلْكَ الشمعة تقد بَين
يَدي فِيمَا يصلحهم وَهِي لَهُم، فَلَمَّا صرت لشأني وَأمر عيالي وَنَفْسِي أطفأت
نَار الْمُسلمين(4).
5- الأمانة مع المسلم وغيره:
قال ميمون بن مهران: «ثلاثة يؤدين إلى
البر والفاجر، الرحم توصل كانت برة أو فاجرة، والأمانة تؤدي إلى البر والفاجر،
والعهد يوفى به للبر والفاجر»(5).
دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على التحلي بالأمانة
1- مراقبة الله: روى البيهقي بسند صححه
الألباني عن زيد بن أسلم قال: مرّ عبدالله بن عمر براعٍ، فقال: يا راعي الغنم، هل
من جزرة؟ قال الرّاعي: ليس ها هنا ربّها، فقال له ابن عمر: تقول له: إنه أكلها الذئب،
فرفع الرّاعي رأسه إلى السماء، ثمّ قال: فأين الله؟ قال ابن عمر: فأنا والله أحقّ
أن أقول: فأين الله؟ فاشترى ابن عمر الرّاعي، واشترى الغنم، فأعتقه، وأعطاه الغنم.
2- أصدق الصدق: روى البيهقي عن أبي بكر
الصديق قال: «أصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة».
3- لا دين لمن لا أمانة له: عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: «لَا
يَغُرَّنَّكَ صَلَاةُ رَجُلٍ، وَلَا صِيَامُهُ، مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ
صَلَّى، وَلَكِنْ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»(6).
4- عظم الأمانة عند الله: عَنْ عَبْدِاللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَفَّارَةُ كُلِّ ذَنْبٍ
إِلَّا الْأَمَانَةَ، وَإِنَّ الْأَمَانَةَ: الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْغُسْلُ
مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْكَيْلُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْحَدِيثُ، وَأَعْظَمُ مِنْ
ذَلِكَ الْوَدَائِعُ»(7).
5- الأمانة رأسمال الداعية: عَن سُفْيَان
بن عُيَيْنَة قَالَ: «من لم يكن لَهُ رَأسمَال فليتخذ الْأَمَانَة رأسماله»(8).
6- من آلات الرياسة: قال يونس بن عبد
الأعلى: سمعت الشافعي يقول: «آلَاتُ الرِّيَاسَةِ خَمْسٌ: صِدْقُ اللَّهْجَةِ،
وَكِتْمَانُ السِّرِّ، وَالوَفَاءُ بِالعَهْدِ، وَابْتِدَاءُ النَّصِيْحَةِ،
وَأَدَاءُ الأَمَانَةِ»(9).
____________________
(1) صحيح مسلم (1/ 12).
(2) صرح بذلك الإِمامان أبو حنيفة
والشافعي، انظر: مجموع رسائل ابن عابدين (1/ 24).
(3) إرشاد العباد إلى سبيل الرشاد: زين
الدين المعبري، ص 127.
(4) سيرة عمر بن عبدالعزيز: ابن عبدالحكم،
ص 137.
(5) شعب الإيمان (7/ 219).
(6) السُّنة: ابن الخلال (5/ 17).
(7) مكارم الأخلاق: الخرائطي، ص 69.
(8) شعب الإيمان (4/ 327).
(9) سير أعلام النبلاء (10/ 42).