«الترند» والنميمة الرقمية.. كيف يضبط القرآن فوضى الكلام؟

د. مي سمير

24 نوفمبر 2025

87

اللغة وسيلة لا غنى عنها للتواصل بين البشر، ابتكرها الإنسان لتحسين أسلوب حياته في تفاعله مع بني جنسه وشركاء مجتمعه، ويقال للغة في تجليها الشفهي كلام، والكلام وإن بدا فعلاً إنسانياً سهلاً وتلقائياً وخالياً من التعقيدات، فإنه لا ينشأ في فراغ ويرتبط ارتباطاً متيناً بالفضاء الاجتماعي العام، وهو ما يجعل دوره حاسماً في إصلاح المجتمع أو فساده.

وهو ما يظهر جلياً في الاهتمام الإسلامي بتنظيم مسألة الكلام، فكان الكلام وما ينطق به اللسان في القول ملمحاً أساسياً شغل مساحة معتبرة من التوجيه الإلهي، واعتبر القول ركناً من أركان الإيمان.

فقال ابن تيمية في كتابه «الإيمان»: وفي هذا الباب أقوال السلف وأئمة السُّنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السُّنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل ذلك صحيح.

وبذلك اتفق الفقهاء على اعتبار القول ركناً محورياً من أركان الإيمان، وهو أول ركن من أركان الإسلام ممثلاً في النطق بالشهادتين باللسان، والقرآن كلام الله أنزله على نبيه نوراً وضياء وهدى وبشرى للمؤمنين يتلى آناء الليل وأطراف النهار ويهدي به الله من يشاء.

أهمية الكلام في المنظور الإسلامي

تتجلى مفصلية الكلام في منظور الإسلام في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين أخذ بلسانه قائلاً: «كف عليك هذا»، فسأل معاذ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم».

وفي القرآن الكريم أشار الوحي الإلهي إلى حاسمية الكلمة حين قدم مثالاً متفرداً عن الكلمة الطيبة تارة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم: 24)، وعن الكلمة الخبيثة تارة أخرى: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم: 25)، ثم مؤكداً عقب المثالين على حكم الله تعالى تجاه عباده المؤمنين: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27).

وتتجلى أهمية الكلمة الطيبة وخطورة الكلمة الخبيثة طبقاً للمثال القرآني في الأثر، فالكلمة تأتي في سياق أوسع وتنطلق من اللسان إلى الفضاء الاجتماعي فتبني أو تهدم، فهي كالشجرة التي تثمر وتظلل وتحمي البيئة وتنقي الهواء، وهو ما يشير إلى التركيز القرآني على الكلمة كأداة للفعل الاجتماعي الذي يجعلها شديدة النفع أو بالغة الخطورة.

الأدوار الاجتماعية للكلمة في المنظور الإسلامي

وردت الكلمة في سياق القصص القرآني في مناسبات مُختلفة، أظهرت للمؤمنين خطورة الكلام في الفضاء الاجتماعي وآثارها المُدمرة، وذلك لتوعية المؤمنين بمالات الخوض باللسان وانعكاساته التي قد لا يلقون لها بالاً، فركز الوحي الإلهي على هذه الأخطار الكلامية:

1- النميمة الاجتماعية: يقول الله تعالى مخبراً عن قصة نبي الله يوسف عليه السلام: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يوسف: 30)، فالقصة كان من الممكن أن تنتهي عند حد: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف: 29)، لكن تلك النميمة الاجتماعية التي خاضت فيما لا يجوز الخوض فيه أثارت حمية امرأة العزيز التي قررت أن تمضي قدماً ما آل في النهاية إلى سجن يوسف عليه السلام، وفي ذلك إشارة قرآنية لخطورة النميمة الاجتماعية وآثارها الضارة والمدمرة في المجتمع.

2- الإلهاء عن ذكر الله: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (لقمان: 6)، يشير الزمخشري في «الكشاف» إلى أن اللهو هو كل باطل ألهى عن الخير نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرفات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من الغناء وتعلم الموسيقى، لما في ذلك من شغل للعقل والقلب عن التعلق بذكر الله.

3- الكلام وأثره على شخصية الفرد: وصف القرآن بعضاً من سمات الكافر في سورة «القلم» التي كان من أهمها بأنه: (هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم: 11)، فكأن النميمة كسلوك مذموم قد ترك أثره في شخصية الفرد من كافة النواحي تبعاً لذلك، فأدى مشيه بين الناس بنقل الأقوال والنميمة إلى أن يصبح: (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (القلم: 12)، وبذلك يحذر القرآن من إطلاق اللسان بالنميمة ليس فقط لآثاره المدمرة مجتمعياً، بل لما يتركه من أثر سلبي في شخصية الفرد ويحوله إلى شخص قبيح.

آداب الكلام في القرآن الكريم

ونتيجة لخطورة الكلمة في سياقها الاجتماعي، حرص الوحي الإلهي على تنظيم مسألة الكلام في المجال العام اتقاءً لشرور النميمة الاجتماعية واللغو الذي يلهي عن ذكر الله، فأسس قواعد وردت متفرقة في مواضع قرآنية عدة، وكانت «حادثة الإفك» من أبرز تلك المواضع التي تجلى فيها بالتجربة العملية الأثر السيئ للخوض العام في الشائعات.

ومن أهم القواعد القرآنية لتنظيم الكلام في المجال العام:

- التبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)، تحذر الآية من تصديق أي خبر يرد إلى الآذان دون تبين؛ لما قد ينتج عن هذا التصديق من إثارة حروب أو فتن، وهو ما يحض على التأني والتثبت من الأخبار لتمييز الصدق من الكذب لحماية المجتمع من شرور الشائعات والأكاذيب.

- حفظ اللسان: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور: 16)، رغم نزول تلك الآية في معرض قصة «حادثة الإفك»، فقد رسخت قواعد اجتماعية مهمة بشأن الخوض باللسان والتجرؤ على الكلام في كل شيء.

- تحريم الغيبة والنميمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).

وتبعاً لكل ما تقدم، فقد نزل أمر إلهي قاطع بتحريم الغيبة والنميمة واجتناب الظن السيئ الذي قد يؤدي إلى الخوض باللسان بشكل مذموم عن الآخرين وينشر الكراهية بين أفراد المُجتمع، وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن الغيبة، فقال: «هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ، فإنْ كُنْتَ صَادِقاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ كُنْتَ كاذِباً فَقَدْ بَهَتَّهُ»، وإمعاناً في التحريم فقد شبه الوحي القرآني الكلام عن الآخرين في غيابهم بأنه كأكل لحومهم ميتاً لتوضيح بشاعة فعل الكلام بشأن الآخرين والخوض في سيرتهم.

- الكلام والإصلاح الاجتماعي: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 114).

وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بتجنب الكلام فيما لا ينفع، واتقاء الغيبة والنميمة، وفي المقابل عدد القرآن الكريم المجالات الاجتماعية المُباح بها الكلام النافع، التي جاءت جميعاً في سياق الإصلاح الاجتماعي في المجال العام.

واليوم، بينما أصبح «الترند» هو أن يتكلم الإنسان بغير علم في كل ما هو شائع في المجال العام، أصبح الخوض في الكلام وسيلة للظهور والشهرة، وبات الصمت معيباً، وتراجعت الألفة والمودة نتيجة انتشار النميمة الاجتماعية وخطاب الكراهية وتنامي الكذب والتضليل والشائعات، وما من سبيل إلى النجاة من دون تفعيل آليات الضبط القرآني للكلمة في سياقها الاجتماعي لتعود بحق طريقاً للهداية وأداة لنشر الألفة، ووسيلة لتزكية النفس والإصلاح الاجتماعي.


اقرأ أيضاً:

المسلم بين فتن الإعلام الرقمي وصناعة الوعي

- من التواصل إلى النميمة الرقمية!


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة