الحياء في الثقافة الإسلامية.. قيمة منسية في عالم مفتوح

في زمن تلاشت فيه الكثير من القيم
الاجتماعية الموروثة وصارت جزءاً من الماضي ورمزاً للتخلف والرجعية خاصة في أوساط
الشباب، وعلى وجه الخصوص الفتيات منهم، فصار كل شيء يعرض على الملأ على صفحات
التواصل الاجتماعي، وصار تطبيق «تيك توك» في كل بيت ينقل الخصوصيات والأسرار، ليجد
المرء نفسه أمام عالم يفتقد الضوابط، ويعلي من قيمة الجسد والتعري على حساب الروح
والأخلاق.
وفي خضم تلك الفوضى، تبدو فضيلة الحياء
وكأنها أثر من الماضي، ونسي شباب المسلمين أن الإسلام قدم الحياء كقيمة جوهرية
تشكل لبنة أساسية في بنية الإيمان والأخلاق، فالحياء في الرؤية الإسلامية ليس
انطواء أو ضعفاً، بل هو وعي عميق بالمسؤولية أمام الله والناس، وضابط يحفظ للإنسان
كرامته وللمجتمع توازنه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل
دين خُلقًا، وخُلق الإسلام الحياء» (رواه ابن ماجه)، فجعل الحياء السمة المميزة
للإسلام كله.
الحياء في النص القرآني
أولى القرآن خلق الحياء قيمة خاصة بالرغم
من عدم ذكر مصطلح الحياء صريحاً بصورة موسعة، لكنه اهتم بعرض مواقف تجسد معناه في
أزهى الصور، ولعل الصورة الأبرز في كتاب الله قصة ابنة شعيب حين وصفتها الآية
الكريمة: (فَجَاءَتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص: 25)،
قال الإمام الطبري في تفسيره: «أي بوقارٍ وخَفَر، لا كما تَخرج السَّفِهات من
النساء»(1).
كذلك جاءت أوامر الشريعة في سورة النور
حول غض البصر وحفظ الفروج: (قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور)، وهي أحكام
عملية تؤسس لثقافة الحياء وتجعله سلوكاً طبيعياً لكل مؤمن ومؤمنة، فالمؤمن مأمور
أن يضبط نظره ولسانه وجوارحه.
الحياء في النص النبوي
الأحاديث النبوية رفعت قيمة الحياء إلى
مصاف العقيدة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في
الجنة» (رواه أحمد)، وفي الصحيحين: «الحياء شعبة من الإيمان»، فالحياء ليس مجرد
خلق اجتماعي مرغوب، بل هو انعكاس لعلاقة القلب بالله تعالى.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قدوة عملية في الحياء كما في كافة الأخلاق، فعن أبي سعيد يقول: «كان النبي صلى
الله عليه وسلم أشدَّ حياء من العذراء في خدرها» (أخرجه البخاري)، إنه الحياء
المتوازن الذي لا يمنع صاحبه من قول كلمة الحق والجهر بها ومواجهة الباطل، الحياء
الإيجابي الذي يدفع المرء تجاه الحق في حدود الأدب والأخلاق، كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء رضي الله عنها سألت النبي صلى
الله عليه وسلم عن غسل المحيض؟ وفيه: فقالت عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النساء
نساء الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين» (أخرجه مسلم).
الحياء بين الفرد والمجتمع
الحياء في الثقافة الإسلامية ليس قيمة
فردية فحسب، بل هو رابط اجتماعي يضبط التوازن بين الحرية والمسؤولية، ويشمل الحياء
كسلوك عام للفرد المسلم تجاه كل ما يحيط به في حياته لينقسم لثلاثة أقسام؛ الحياء
من الله، ثم الحياء من الناس، ثم الحياء مع النفس.
فأما الحياء مع الله فهو أعظم أنواع
الحياء، وهو الذي يمنع صاحبه من الوقوع في المحظورات حياء من أن يراه الله عز وجل
على معصية، فهو يجعل المؤمن يخجل من أن يراه الله حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «استحيوا
من الله حق الحياء»، قُلنا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا لنَستحيي والحمد لله، قالَ: «ليسَ
ذاكَ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ وما وَعى،
وتحفَظَ البَطنَ وما حوَى، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ
زينةَ الدُّنيا، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا» (أخرجه الترمذي).
وجاء إليه رجل فقال: أوصني، قال: «أوصيك
أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك» (رواه أحمد).
ثم الحياء مع الناس، وهو شعور يدفع
المسلم إلى احترام القوانين والأعراف المجتمعية فيحفظ نفسه من أن يهينه أحدهم بسبب
الوقوع فيما يخجل.
ويأتي الحياء مع النفس ليزين حياء المسلم
ككل ويتمه، فيترفع الفرد عن كل دنية ويأنف أن يضع نفسه في مواضع السوء، وبهذا
يتكامل حياء المؤمن بين ضميره الشخصي، وضميره المجتمعي.
الحياء في السلوك الاجتماعي
منذ فجر الرسالة، وفي عصور الازدهار
الحضاري الإسلامي، تجلى أثر الحياء في حياة المسلمين في صور متعددة ومنها:
أولاً: في الملبس، فالإسلام لم يترك
لأهله حرية ارتداء أي ملابس يريدون، وإنما وضع شروطاً تندرج تحت عنوان الستر، فعلى
المرأة أن تحتجب، وأن تخفي مواطن جمالها حفاظاً على المجتمع من الفتن، وحفاظاً
كذلك على حيائها وكرامتها، فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن
يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59).
ثانياً: في الكلام، وكما حدد الإسلام شكل
الأزياء والملابس بالتزام شروط الستر والبساطة، كذلك حدد طريقة الكلام، فأسلوب
التخاطب بين الرجال والنساء يجب أن يتسم بالجدية وعدم إثارة الغرائز، فقال تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب: 32).
ثالثاً: في المعاملات: فالحياء يمنع
الغش، والبذاءة، وسوء الخلق، ويجعل التعامل راقياً متزناً.
أزمة الحياء في عالم السماوات المفتوحة
بعد ظهور الإعلام الجديد بكل أشكاله،
بدءاً من الفضائيات والاطلاع على عالم العري بالثقافات الغربية، ثم ظهور وسائل
التواصل الاجتماعي ومن بعدها عالم الخوارزميات، صار الحياء تخلفاً ورجعية، بعدما
فرضت الدراما صورة مغالطة للجرأة باعتبارها شجاعة، صار تحذير النبي صلى الله عليه
وسلم واجباً يجب استحضاره في كل وقت حيث يقول: «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» (رواه
البخاري)، وهو توصيف دقيق لما يمكن أن يحدث إذا غاب الحياء، ويصير كل فعل مهما
بلغت دناءته وارداً.
لقد فرضت وسائل التواصل واقعاً مريراً،
حيث سقط الستر عن البيوت الآمنة، وصار الجسد سلعة يتاجر بها من يريد في سبيل
الحصول على منافع عاجلة وزائلة، وتوسعت القيم الغربية على حساب القيم الإسلامية
الأصيلة.
كيف يمكن إعادة قيمة الحياء لمكانتها؟
إن إعادة إحياء قيمة الحياء لا تعني
الانغلاق، بل تعني التوازن بين الانفتاح الواعي والالتزام الأخلاقي، ويمكن إعادة
قيمة الحياء لمجتمعاتنا العربية والإسلامية عبر عدة إجراءات، منها:
1- إعادة قيمة الأسرة وحسن توظيف
أفرادها، فالأسرة المسلمة يقع عليها العبء الأكبر في عملية التربية وغرس القيم
النبيلة في نفوس أبنائها، خاصة إذا كانت التربية بالقدوة.
2- إصلاح التعليم وتوجيه الإعلام، فيجب أن
تتضافر جهود العلماء والمربين، وتتوافر إرادة قوية من المجتمع المسلم ككل لضبط
المناهج التربوية وفق القيم الإسلامية.
3- العودة إلى القرآن والسيرة النبوية
كمصادر تربوية لتعليم الجمع بين الحياء كخلق، والشجاعة في الحق، وأن تكون مصدر
التشريعات والقوانين العامة، خاصة قوانين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
الحياء في مواجهة ثقافة العولمة
قد يظن البعض أن الحياء يتعارض مع
مقتضيات الحداثة والعولمة، لكن الحقيقة أن الحياء يقدم للإنسان حماية نفسية
وأخلاقية وسط عالم استهلاكي، وذلك في مجتمع يحدد قيمة الفرد ليس بأخلاقه أو دينه،
وإنما بقيمته السوقية، فيظهر الحياء ليعرف بقيمة الإنسان كروح ونفس وسلوك وعلاقة
سامية بالله عز وجل، وعلاقة طيبة بالآخرين.
_____________
(1) جامع البيان، ج18، ص168.