الذكاء الاصطناعي بين الإحسان والإفساد.. المحاذير الشرعية في عالم التكنولوجيا

أمر الله عز وجل الإنسان بالعلم، وسخر له الكون ليحقق ما فيه نفع وخير وعمارة للأرض، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13)، ومن العلوم المشهودة في وقتنا الحالي علم الذكاء الاصطناعي، ذلك العلم الذي ألقى بظلاله في جل أمور الحياة البشرية.

في ظل الطفرة التكنولوجية التي يشهدها العالم، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وعلى الرغم من فوائده التي لا تُعد ولا تُحصى في النهضة العلمية والاقتصادية، فضلاً عن استخدامه في خدمة الدعوة والعلوم الشرعية وتحقيق العدل، فإننا كمسلمين مُلزمون بالنظر إليه من منظور شرعي يزن منافعه وأخطاره، مسترشدين في ذلك بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الذكاء الاصطناعي كأي أداة، حُكمه يعتمد على طريقة استخدامه؛ هل هو وسيلة للإحسان وعمارة الأرض، أم أنه يؤدي إلى الإفساد والضرر؟

قضية الخصوصية وحرمة الأسرار

يُعدّ جمع البيانات الضخمة وتحليلها عصب عمل الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك، فإن هذا الأمر يثير قلقًا كبيرًا فيما يتعلق بخصوصية الأفراد، خاصة برمجيات وتطبيقات التلصص، وانتهاك الخصوصية، والسطو على البيانات والصور الشخصية والأسرار الخاصة، والحسابات المصرفية، والأبحاث العلمية.

لقد كرّم الإسلام الإنسان، وستر عوراته، ونهى عن التجسس، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وقال: (وَلَا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، وإن استخدام الذكاء الاصطناعي لانتهاك خصوصية الناس أو الكشف عن أسرارهم دون وجه حق يُعدّ تعديًا صارخًا على هذا المبدأ، فالمسلم مُطالب باحترام كرامة الإنسان وحفظ خصوصية وأسرار أخيه، فكيف بمليارات البيانات التي تكشف أدق تفاصيل حياتهم؟!

محاذير الخلق والمضاهاة

تُثير تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تولّد صورًا وأشكالاً تحاكي الكائنات الحية، أو تُنتج روبوتات شبيهة بالبشر تمامًا، تساؤلات حول محظور «التصوير» و«المضاهاة لخلق الله»، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله»(1) (صحيح البخاري، 5954)، رغم أن غالبية الفقهاء المعاصرين يرون أن التصوير الرقمي ليس كالتصوير المادي المحرّم في الأحاديث، لكونه لا تحبس فيه الروح وأنه مجرد بيانات إلكترونية.

إلا أن الإفراط في محاكاة الخلق الإلهي قد يفتح بابًا للتساؤلات حول تجاوز حدود التقنية والدخول في نطاق المحرم، وقد أبدى الكاتب نيل ماك آرثر، في مقاله بعنوان «آلهة في الآلة» مخاوفه من أن نظرة بعض مستخدمي الذكاء الاصطناعي إلى «الروبوتات» قد تكون مشوبة بالتعظيم والتقديس، لا سيما أن التطور الخارق للذكاء الاصطناعي جعل إمكانات الروبوتات تفوق إمكانات البشر، ومعرفته بلا حدود؛ حيث إن الإحسان في الصناعة مطلوب، ولكن يجب ألا يصل إلى درجة المضاهاة للخلق التي قد تُفضي إلى الغرور أو التلاعب بمسلّمات الإيمان.


العدالة والتحيز في الخوارزميات

أصبحت خوارزميات الذكاء الاصطناعي تستخدم لاتخاذ قرارات مهمة وحساسة، مثل منح القروض أو القبول في الوظائف، ولأن الذكاء الاصطناعي يعتمد على البيانات التي يُدرب عليها لتخاذ القرارات، فإذا كانت هذه البيانات متحيزة (كأن تكون مبنية على معلومات عنصرية عن بيئات أو فئات اجتماعية دون غيرها)، فإن القرارات التي يتخذها الذكاء الاصطناعي ستكون غير عادلة أو تمييزية، وقد يؤدي هذا إلى حرمان فئات من الناس من فرص عمل أو قروض أو خدمات بناءً على تحيز غير مقصود في النظام.

وهذا يتعارض مع مبدأ العدالة المطلقة والمساواة في الإسلام، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل: 90)، فمهما كانت التقنية متقدمة، يجب أن تكون محكومة بأخلاق العدل والإحسان.

استخدام الذكاء الاصطناعي في المحرمات

إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة لإدارة مشاريع في مجالات محرمة مثل القمار أو الربا أو الترويج للمواد الإباحية والأفكار الهدامة، فإن استخدامه يصبح محرمًا بشكل قاطع، وحُكم الشريعة هنا واضح، فالوسيلة تأخذ حكم المقصد، فما ذهب إليه عامة الفقهاء بأن «وسيلة الحرام حرام»، وأن «ما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام» و«ما أدى إلى شيء من الحرام كان حرامًا»(2).

فإذا كان استخدام الذكاء الاصطناعي يخدم هدفًا محرمًا، فإنه يصبح محرمًا، كما أن الله عز وجل نهى عن الإعانة على الإثم، قال تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، فكيف بالإعانة بالتقنية التي تُيسّر الوقوع في المعاصي؟

استخدام الذكاء الاصطناعي في القتل والإبادة

من أخطر أوجه استخدام الذكاء الاصطناعي توجيهه لإنتاج أسلحة فتاكة أو روبوتات قاتلة خارج نطاق الدفاع المشروع، سواء كان القتل بصورة مباشرة، أو بطرق أخرى غير مباشرة كبث السموم والمواد الكيميائية في الهواء، أو أي وسيلة أخرى تؤدي إلى الإبادات الجماعية وأسلحة الدمار الشامل، إن هذا الاستخدام يتجاوز المحاذير الأخلاقية والشرعية، ويُعدّ من أشد أنواع الإفساد في الأرض.

لقد عظّم الإسلام حرمة النفس البشرية، ونهى عن الاعتداء عليها، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ»(3) (صحيح الجامع، 5077)، فالمسلم منهي عن العدوان على الآخرين، فكيف بالإسهام في تطوير تقنيات تُزهق الأرواح وتُدمّر المجتمعات؟

إن هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي يخرج به عن إطار الأداة النافعة، ليصبح آلة للدمار الشامل، ومصداقاً لقوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (الأعراف: 56).

الخلاصة

إن الذكاء الاصطناعي أداة هائلة بين أيدينا، حكمه الشرعي يعتمد على طريقة استخدامه، يمكن أن يكون وسيلة لعمارة الأرض والمنفعة وحل المشكلات، أو أداة للضرر والتلاعب والمفاسد، فلا تقنية حسنة أو سيئة، بل مستخدمون محسنون أو مسيؤون.

فالتحدي يكمن في توجيه هذه التقنية بما يتوافق مع قيمنا وأخلاقنا الإسلامية، والمؤمن الحقيقي ليس فقط من يبتكر ويبدع، بل من يوازن بين التقدم التكنولوجي والمسؤولية الأخلاقية، ليضمن أن كل خطوة يخطوها تكون في سبيل مرضاة الله والإحسان إلى خلقه.




____________________

(1)  محمد إسماعيل البخاري (2002)، صحيح البخاري، دار ابن كثير، بيروت، الطبعة الأولى، باب ما وطئ من التصاوير، حديث رقم5954.

(2)  محمد أحمد شحاته حسين (2024)، أحكام الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الفقه الإسلامي بين التأصيل والتحليل، مجلة الحقوق للبحوث القانونية، جامعة الإسكندرية.

(3) محمد ناصر الدين الألباني (1988)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير)، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة (5077).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة