السودان حرب بلا حدود.. قصص مؤلمة من قلب الجحيم

ناجي الكرشابي

06 نوفمبر 2025

107

يعيش السودان منذ أكثر من عام ونصف عام واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، بعد أن أشعلت مليشيات «الدعم السريع» تمردًا مسلحًا ضد الجيش السوداني في أبريل 2023م، بدعم من جهات إقليمية خارجية وفّرت لها السلاح والعتاد والمعلومات، وتحولت البلاد إلى مسرح للفوضى والدمار، ودفعت ملايين المدنيين إلى النزوح واللجوء في ظل غياب شبه تام للمجتمع الدولي، الذي يكتفي بإصدار بيانات القلق دون فعل حقيقي على الأرض.

المدنيون.. وقود الحرب وضحاياها

منذ الأيام الأولى للحرب، لم يكن المدنيون مجرد متفرجين على صراع مسلح بين قوتين، بل أصبحوا وقوده وضحاياه، فالقصف العشوائي، وعمليات النهب، والقتل على الهوية، والاغتصاب الجماعي، تحولت إلى سلوك ممنهج في المناطق التي دخلتها المليشيات، ومع مرور الوقت، اتضح أن ما يجري في السودان ليس صراعًا عسكريًا تقليديًا على السلطة فحسب، بل عملية تدمير ممنهجة للبنية الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.

أكبر أزمة نزوح في العالم

تقدّر الأمم المتحدة عدد النازحين السودانيين بأكثر من 13 مليون شخص داخل البلاد وخارجها، وهي أكبر موجة نزوح يشهدها العالم اليوم، هؤلاء يعيشون في ظروف قاسية، بلا مأوى ولا غذاء كافٍ ولا دواء، تتكدس الأسر في العراء أو في مبانٍ مهدمة، بينما تفشل منظمات الإغاثة في الوصول إلى المحتاجين بسبب انعدام الأمن وانتشار المليشيات المسلحة على الطرق خاصة في مناطق سيطرة الدعم السريع.

قصص الموت الصامت

من بين آلاف القصص التي تعبّر عن مأساة هذا الواقع، تبرز حادثة السيدة المجهولة التي فرت من مدينة الفاشر إلى منطقة شنقل طوباي بولاية شمال دارفور، وصلت منهكة بعد أيام من السير في ظروف قاسية بين ارتفاع درجات الحرارة والعطش الشديد، حاول السكان إنقاذها بالماء واللبن، لكن جسدها لم يحتمل، توفيت قبل وصولها إلى أقرب مستشفى -يبعد 15 كيلومترًا- قصة هذه السيدة نموذجاً لمعاناة آلاف السودانيين الذين يموتون بصمت، بعيدًا عن عدسات الإعلام والمنظمات.


دارفور.. عنف ممنهج ومجازر مروعة

في غرب السودان، تحولت ولايات دارفور إلى بؤر للعنف الممنهج، مدن مثل نيالا والفاشر والجنينة شهدت عمليات اقتحام عنيفة نفذتها قوات «الدعم السريع»، رافقتها أعمال قتل ونهب واغتصاب وإحراق للمنازل والمخيمات.

وبحسب تقارير ميدانية وشهادات سكان محليين، أصدر قائد ثاني «الدعم السريع» شقيق حميدتي، أحد أبرز القادة العسكريين؛ أصدر تعليمات لمقاتليه قبل دخول مدينة الفاشر بأيام، دعاهم فيها إلى «تنظيف المدينة» وعدم ترك أي أسير أو جريح، وتحولت هذه التعليمات إلى مجازر مروعة، راح ضحيتها مئات المدنيين بينهم نساء وأطفال.

ما يفاقم المأساة أن هذه الانتهاكات لم تعد حالات فردية، بل أصبحت جزءًا من نمط متكرر، فالمليشيات لا تكتفي بالقتال ضد الجيش، بل تستهدف المدنيين عمدًا لبث الرعب وكسر روح المقاومة في المجتمعات المحلية، وتُستخدم عمليات الاغتصاب كسلاح حرب، وتمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، كما تفرض إتاوات على قوافل الإغاثة والمنظمات العاملة في الميدان.

الخرطوم والجزيرة.. دمار يلاحق الفارين

في العاصمة الخرطوم والمناطق التي أعاد الجيش السوداني السيطرة عليها، يعيش من تبقّى من السكان تحت تهديدات الطائرات المُسيّرة المستمر، التي تستهدف محطات الكهرباء، والمياه، بجانب ارتفاع الأسعار إلى مستويات خيالية، مشاهد الدمار التي خلفتها الحرب في أحياء مثل بحري وجبرة والخرطوم وسط توحي بأن المدينة أصبحت غير صالحة للحياة، ومع ذلك، يرفض آلاف المدنيين مغادرتها لأنهم ببساطة لا يملكون مأوى بديلة.

في مدن مثل ود مدني بولاية الجزيرة وسط البلاد، تكرر المشهد ذاته، دخول المليشيات إليها أواخر العام قبل الماضي حوّلها إلى ساحة حرب داخل الأحياء السكنية، أُحرقت المحال التجارية، ودُمّرت المؤسسات العامة، وفرّ السكان بأعداد كبيرة إلى ولايات الشرق والشمال، قبل أن يخرجهم الجيش منها أوائل هذا العام، ومع كل منطقة تسقط، يتسع نطاق المأساة الإنسانية.

الموقف الدولي.. صمت يغذي الصراع

ورغم هذه الصور القاتمة، ما زال الموقف الدولي يتسم بالفتور، والبيانات الصادرة من مجلس الأمن والمنظمات الأممية تتحدث عن قلق عميق ودعوة إلى ضبط النفس، لكنها لا تتضمن أي خطوات عملية لوقف تدفق السلاح أو فرض عقوبات على الأطراف التي تغذي الصراع.

تقارير عدة تشير إلى أن المليشيات تحصل على دعم من جهات إقليمية خارجية تمتلك مصلحة في إضعاف الدولة السودانية وتحويلها إلى ساحة نفوذ، هذا الدعم، سواء بالسلاح أو التمويل أو المعلومات، ساهم في إطالة أمد الحرب وتفاقم معاناة المدنيين.

خطر انهيار الدولة والمجاعة الوشيكة

ما يجري في السودان اليوم يعيد إلى الأذهان مآسي الحروب الأهلية في رواندا والبوسنة، حيث تُرتكب الجرائم الجماعية أمام أنظار العالم دون تدخل حقيقي، ومع استمرار القتال، يتزايد خطر انهيار الدولة بالكامل وتحولها إلى بؤرة للفوضى في منطقة حساسة من القارة الأفريقية تربط بين البحر الأحمر والقرن الأفريقي ودول الساحل وتعتبر بوابة فعلية للإسلام إلى أفريقيا.

الأمم المتحدة تحذر من أن أكثر من نصف سكان السودان بحاجة عاجلة إلى المساعدة الإنسانية، وأن المجاعة تقترب من مناطق واسعة، خاصة في ولايات دارفور وكردفان، ومع ذلك، تواجه وكالات الإغاثة صعوبات هائلة في تأمين التمويل اللازم، بينما يواصل المانحون تقليص دعمهم بحجة تعقيد الوضع الأمني.

على المستوى الإقليمي، تتعامل بعض العواصم مع الأزمة السودانية باعتبارها ملفًا للمساومة السياسية، وليس مأساة إنسانية تتطلب تحركًا عاجلًا، هذا الصمت أو التجاهل يرسل رسالة خطيرة مفادها أن حياة ملايين السودانيين أقل أهمية من الحسابات الإستراتيجية.

الصمت شكل من أشكال الجريمة

في معسكرات النزوح، تنتشر الأمراض بجانب نقص الغذاء، وتغيب الخدمات الأساسية؛ فالأطفال بلا مدارس، والنساء يتحملن عبء النجاة اليومي في ظل غياب أي حماية، وآلاف القصص لم تُروَ بعد، ولا تزال في ذاكرة من فقدوا بيوتهم وأحباءهم.

السودان اليوم يقف على حافة الهاوية، والحرب حولت البلاد إلى مأساة إنسانية تتشارك في تغذيتها أيادٍ خارجية وصمت عالمي مطبق، وإذا استمر هذا الوضع، فإن القادم سيكون أكثر قسوة، ليس على السودان وحده، وإنما على المنطقة بأكملها، وكل يوم يمر، تُزهق فيه أرواح جديدة، وتُدفن معه قيم العدالة والإنسانية، والصمت في مثل هذا الوضع يعد شكلاً من أشكال المشاركة في الجريمة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة