السير في أرض الشوك.. وإدارة الوعي المؤسسي
«واصنع كماشٍ
فوق أرض الشوك يحذر ما يرى»، بيت قديم للإمام ابن المبارك، لكنه يظل حديثاً في كل
بيئة قيادية، فما أكثر ما تشبه المنظمات الحديثة أرض الشوك؛ ميدان تتقاطع فيه
المصالح، وتكثر فيه التحديات، وتنتشر فيه العقبات الدقيقة التي لا يراها إلا من
سار بحذر ووعي واستبصار، وليس المقصود الحذر الذي يشلّ القرار، بل الحذر الذي يصنع
الوعي ويؤسس لثقافة تنظيمية ترى ما وراء التفاصيل.
أولاً: الإدارة في أرض الشوك:
كل مؤسسة مهما
كانت أهدافها النبيلة، تعمل ضمن بيئة مليئة بالتحولات والضغوط؛ تشريعات متغيرة، ومنافسة
غير منضبطة، وموارد محدودة، ومجتمع ينتظر منها نتائج ملموسة وسريعة، هذه الأرض
تحتاج إلى قيادة تمشي بحذر، تعرف مواضع الخطأ قبل وقوعه، وتستشرف التحديات قبل أن
تتحول إلى أزمات، والمدير الواعي هو الذي لا ينجرف خلف الاندفاع، ولا يجمّد الحركة
خوفاً من الفشل، بل يمسك بخيوط التوازن الدقيقة، فالإدارة في عالم اليوم ليست سباقاً
في السرعة، بل فنٌّ في الحذر، ووعيٌ في اتخاذ القرار، وشفافية في المساءلة.
ثانياً: الحذر المؤسسي لا يعني التردد:
يخطئ من يظن أن
الحذر عدوّ للإنجاز، في المؤسسات الناجحة، الحذر يعني منظومة حوكمة قوية، وإدارة أخطار
واعية، ورقابة داخلية تحمي المؤسسة من الانزلاق في مواطن الخطر، وكما أن الماشي في
أرض الشوك يركّز عينيه على الطريق، فإن المؤسسة التي تعمل في بيئة متشابكة يجب أن
تفتح أعينها على أنظمتها، وعلى شفافيتها، وعلى جودة قراراتها.
ثالثاً: الثقافة المؤسسية درع الماشي:
حين يُشبَّه
الإنسان في الأبيات بماشٍ فوق أرض الشوك، فإن أفضل ما يملكه هو حذاؤه المتين ووعيه
بالطريق، وفي المؤسسات، هذا الحذاء هو الثقافة المؤسسية، وقيمها، ووضوح رؤيتها،
وصدق العاملين فيها، فالثقافة الصادقة هي ما يجعل الفريق يمشي بثقة رغم وعورة
الطريق، أما المؤسسات التي تضعف فيها القيم، فيصبح طريقها مليئاً بالأشواك
الإدارية؛ من مجاملات، وغياب للمساءلة، وضبابية في الأدوار، وضعف في القيادة
المتوازنة.
رابعاً: إدارة الأخطاء لا إنكارها:
في «أرض الشوك»،
لا بد أن تقع بعض الوخزات، لكن المهم هو كيف تتعامل معها، في المؤسسات الناجحة، لا
يُعاقب من أخطأ بصدق، بل يُستفاد من تجربته لتقوية المسار، المنظمات الذكية تتعامل
مع الخطأ كفرصة تعلم، لا كعار يجب إخفاؤه، فالإدارة الواعية ليست من تخلو من
الأخطاء، بل من تمتلك الشجاعة للاعتراف بها وتحليلها وإصلاحها.
خامساً: الحذر الأخلاقي في القرارات:
في بيئة العمل،
هناك أشواك لا تُرى بالعين، بل تُحسّ بالضمير؛ من تضارب المصالح، واستغلال النفوذ،
وتقديم الولاء على الكفاءة، هذه الأشواك لا تؤذي الجسد المؤسسي فحسب، بل تصيب روحه
وقيمه، ولهذا، فإن المؤسسة التي تُدرّب قياداتها على الحذر الأخلاقي، وتربط
قراراتها بالقيم لا بالمصالح، هي التي تبقى رغم تقلّب الرياح، وقد قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق).
سادساً: من أرض الشوك إلى طريق النمو:
الطريق الذي
يبدأ بالحذر قد ينتهي بالتمكين، فالمؤسسات التي تتعامل بوعي مع بيئتها، وتُحسن
قراءة الواقع، وتُقيم أعمالها على الشفافية، هي التي تحوّل أرض الشوك إلى طريق
نموٍّ مزهر، كل قرار حكيم، كل مراجعة صادقة، كل تطوير للنظم والسياسات، هو بمثابة
نزع شوكة من الطريق.
«أرض الشوك» ليست
دعوة للخوف، بل نداء للبصيرة المؤسسية، إنها تذكير بأن العمل المؤسسي لا ينجح
بالعاطفة وحدها، بل بمنهج يحذر ما يرى، ويستشرف ما لا يُرى، ففي زمن تتسارع فيه
المتغيرات وتتعقد فيه العلاقات، يحتاج القادة والعاملون أن يسيروا بثقافة الوعي،
لا بثقافة الاندفاع، وهكذا تتحول المؤسسات من السعي للبقاء إلى فنّ الاستمرار، من
الخوف من الأشواك إلى القدرة على تحويلها إلى دروس للنضج والتقدم.