الظلم والدم.. لطرفة بن العبد

الظلم والدم لطرفة بن العبد (بحر الكامل):
قَد يَبعَثُ الأَمرَ العَظيمَ صَغيرُهُ حَتّى
تَظَلَّ لَهُ الدِماءُ تَصَبَّبُ
والظُّلمُ فَرَّقَ بَينَ حَيَّيْ وائِلٍ بَكْرٌ تُساقيها المَنايا تَغْلِبُ
وَالإِثمُ داءٌ لَيسَ يُرجى بُرؤُهُ وَالبِرُّ بُرءٌ لَيسَ فيهِ مَعطَبُ
وَالصِّدقُ يَألَفُهُ اللَّبيبُ
المُرْتَجى والكِذْبُ يَألَفَهُ
الدَنيُّ الأَخيَبُ
أدُّوا الحُقوقَ تَفِرْ لكم أعراضُكُمْ إِنَّ الكَريمَ إِذا يُحَرَّبُ يَغْضَبُ
حكاية الأبيات
هذه الأبيات من قصيدة قالها طرفة بن
العبد وهو في بداية حياته، يحكي فيها ما كان من ظلم تعرضت له والدته واسمها وردة،
وهي من بني مالك بن ضبيعة، وهذا الظلم على ما بدا من الروايات تمثل في حرمانها من
مال أو ميراث كان لها، فذكر بشاعة الظلم وما يجنيه على أهله، وما يسببه من حروب،
مستدعياً في هذا السياق ما كان من حرب ضروس بين حيَّي وائل، وهما قبيلتا بكر،
وتغلب، وهو الصراع الذي أزهقت فيه الأرواح، وقد عرف لدى العرب بحرب «البسوس».
حول الأبيات
في قول طرفة:
قَد يَبعَثُ الأَمرَ العَظيمَ صَغيرُهُ حَتّى تَظَلَّ لَهُ الدِماءُ تَصَبَّبُ
المعنى: يقدم هذا البيت حكمة فلسفية
عميقة مفادها أن الأمور العظيمة والكوارث الكبرى، مثل الحروب والصراعات، قد تبدأ
من أسباب تافهة وصغيرة، والنتيجة الحتمية إراقة الدماء.
يَبْعَثُ: توحي بالإحياء والإثارة،
فالأمر الصغير هو من يُحيي ويُطلق العنان للأمر العظيم الكامن.
تَظَلَّ لَهُ الدِماءُ تَصَبَّبُ: صورة
شعرية تثير الخوف والرعب؛ حيث تدفق الدماء وهي تُسفك باستمرار وكأنها نهر لا
يتوقف؛ مما يعكس فداحة العاقبة مقابل صغر السبب، والصورة تعتمد على المبالغة
(الانزياح) لإظهار الفرق الهائل بين البداية والنهاية.
وهذه الحكمة تعكس تجربة تاريخية
واجتماعية عميقة، فالمجتمعات البشرية، وخاصة القبلية منها كالمجتمع العربي آنذاك،
شهدت حروبًا طاحنة اندلعت بسبب كلمة أو نظرة أو موقف بسيط، فالبيت يحمل تحذيرًا
اجتماعيًّا من الاستهانة بالصغائر أو عدم احتوائها قبل أن تتفاقم.
وفي قوله:
والظُّلمُ فَرَّقَ بَينَ حَيَّيْ وائِلٍ بَكْرٌ تُساقيها المَنايا تَغْلِبُ"
المعنى: يضرب الشاعر مثلًا واقعيًّا من
التاريخ العربي على عواقب الظلم، وهو تفريق الظلم بين حيّي قبيلة وائل (بكر،
وتغلب)؛ ما أدى إلى حرب «البسوس» الطويلة والأليمة.
فَرَّقَ بَيْنَ: صورة للتفكك والتمزيق
الاجتماعي، فالظلم بوصفه قوة خفية يفصل ما بين الأقارب والأحبة.
تُساقيها المَنايا: صورة قاسية؛ حيث شخص
المنايا (الأقدار المهلكة)، وهي تسقي القبيلة بكر كأس الموت والإبادة في حربها مع
تغلب.
ويشير البيت إلى واحدة من أشهر الحروب في
التراث العربي؛ ما يجعله مقنعًا جدًّا للجمهور المستمع، وهو يؤكد أن الظلم ليس فقط
إثمًا أخلاقيًا، بل هو قوة هدامة للنسيج الاجتماعي، تُهدر فيها الطاقات وتُسفك
الدماء بين أبناء العمومة، إنه درس في أن العدل أساس استقرار المجتمعات.
وفي قوله:
وَالإِثمُ داءٌ لَيسَ يُرجى بُرْؤُهُ وَالبِرُّ بُرءٌ لَيسَ فيهِ مَعْطَبُ
المعنى: يشبّه الشاعر الإثم (الذنب
والمعصية) بمرض عضال لا يُرجى الشفاء منه بسهولة، في حين يشبّه البر (الطاعة
والعمل الصالح) بالدواء الشافي الذي لا خطر فيه ولا ضرر.
واعتمد الشاعر هنا على تشبيه محوري واضح:
الإثم: المرض، والبر: الدواء.
لَيسَ يُرجى بُرؤُهُ: يصور خطورة
الاستمرار في الإثم، فهو كالمرض المزمن الذي يستعصي على العلاج.
بُرءٌ لَيسَ فيهِ مَعْطَبُ: في مقابل
ذلك، يقدم البر علاجًا مضمون العواقب، إنه آمن تمامًا، هذه الصورة تبسيطية ولكنها
فعالة في التوجيه الأخلاقي.
ويعكس هذا البيت الرؤية الأخلاقية التي
تحذر من تمادي الإنسان في الخطايا، فالإثم يفسد القلب والمجتمع، في المقابل، يقدم
البر حلًّا وحيدًا وآمنًا للسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، إنه توجيه نحو
اختيار المسلك الأسهل والأسلم على المدى الطويل.
وفي قوله:
وَالصِّدقُ يَألَفُهُ الكَريمُ
المُرْتَجى والكِذْبُ يَألَفَهُ
الدَنيءُ الأَخيَبُ
المعنى: يربط الشاعر بين الخُلُق والقيمة
الإنسانية؛ فالصدق صفة ملازمة للإنسان الكريم الموثوق به، في حين أن الكذب صفة
ملازمة للإنسان الدنيء الحقير.
يَألَفُهُ: كلمة مفتاحية، فهي لا تقول
فقط: إن الكريم «يفعل» الصدق، بل إنه «يألفه»؛ أي يصاحبه ويعيش معه ويأنس به، فهو
جزء من طبيعته، الأمر نفسه ينطبق على الكذب والدنيء.
الكَرِيمُ المُرْتَجَى: صفة تخلق صورةً
للرجل الذي يُعتمد عليه ويُرجى خيره.
الدَنِيُّ الأَخيَبُ: صفة قاسية، فالدنيُّ
هو الوضيع، والأخيب هو الخائب الفاسد؛ مما يعمق من صورة الاحتقار لهذه الشخصية.
ويضع البيت معيارًا أخلاقيًا واضحًا
للتفاضل بين الناس في المجتمع، فليس الغنى أو النسب هو مقياس الشرف، بل الأخلاق، والكرم
الحقيقي هو كرم النفس والخلق، والدناءة هي دناءة الخلق، ومثل هذه الأخلاق التي
تناولها الشاعر الجاهلي تتوافق مع قيم الإسلام التي أعادت تشكيل منظومة القيم في
المجتمع العربي؛ حيث أصبحت التقوى والأخلاق هي الأساس.
وفي قوله:
أدُّوا الحُقوقَ تَفِرْ لكم أعراضُكُمْ إِنَّ الكَريمَ إِذا يُحَرَّبُ يَغْضَبُ
أدُّوا الحُقوقَ: تعني أَعطُوا الناس
حقوقَهم كاملة غير منقوصة، سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية؛ مثل: حسن
المعاملة، والوفاء، والصدق.. وغير ذلك.
تَفِرْ لكم أعراضُكُمْ: «تَفِرْ» تعني
تَسْلَم وتَنْجو من الطعن واللوم والتعرُّض لها بسوء، والأعراض هي الشرف والكرامة
والسُّمعة الطيبة للإنسان.
إِنَّ الكَريمَ: يُقصد به الرجل الشريف
ذو الأصل الطيِّب والخُلُق الرفيع الذي يتصف بالسماحة والعطاء وحسن المعاملة.
إِذا يُحَرَّبُ: يُحَرَّب" تعني
يُسلب ماله أو حقه أو يتعرَّض للاعتداء عليه أو على كرامته وشرفه، وهي تشير إلى
حالة الظلم الواقع عليه.
يَغْضَبُ: يثور ويدافع عن حقه وكرامته،
ولا يسكت عن الظلم الواقع عليه، ويتحول من حالته الهادئة والكريمة إلى حالة الدفاع
عن النفس.
فالشاعر يقدِّم نصيحة ثمينة ومُعادلة
واضحة: إذا أردت أن تحافظ على سمعتك وشرفك وكرامتك سالمة من الأذى والاتهام، فعليك
أولاً أن تكون منصفًا وتُعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، فمن لا يقصِّر في واجباته وحقوق
الناس، يصعب على الآخرين أن يجدوا ذريعة للطعن في شرفه.
وكذلك، فإن الشريف والكريم بطبعه يميل
إلى العفو والسماحة، ولكنه عندما يُظلم ويُسلب حقه، فإن كرامته تدفعه إلى الغضب
والمواجهة، هذا الغضب هو غضب حق للدفاع عن النفس واسترداد الحق.
هذه الأبيات ليست مجرد كلام منمق، وإنما دستور
أخلاقي مصغّر يُقدَّم برؤية ثاقبة لعواقب الأفعال الفردية والجماعية، داعيًا إلى
العدل والصدق والبر بوصفه أساسًا لبناء حياة فردية مستقيمة ومجتمع متماسك.