العنف الأسري في الكويت.. بين واقع الظاهرة ورادع القانون
في سبتمبر 2020م،
وقعت حادثة صادمة هزّت الرأي العام الكويتي، في غرفة العناية المركّزة بمستشفى
مبارك الكبير، كانت امرأة مستلقية على سريرها تتلقى رعاية طبية إثر تعرضها لإطلاق
نار من داخل الأسرة نفسها، جاءت الحادثة كاشفة عن تصاعد أنماط العنف الأسري في
المجتمع، وأصبحت رمزاً لمشكلة أعمق تتجاوز الواقعة الفردية نحو ظاهرة اجتماعية
تحتاج إلى مواجهة شاملة، هذا التقرير يستعرض أبعاد الظاهرة، وإحصاءاتها، والخلفيات
الثقافية، والجهود القانونية، والتحديات، والمقاربات المستقبلية.
حجم الظاهرة.. بيانات رسمية تكشف تصاعداً مقلقاً
تشير إحصاءات
وزارة العدل الكويتية، التي كشف عنها تقرير حديث، إلى أن البلاد سجلت 9107 قضايا
عنف أسري خلال السنوات الخمس من عام 2020 حتى 31 مارس 2025م، من هذه القضايا، بلغ
عدد المتهمين 11051 شخصاً؛ منهم 7850 رجلاً، و3201 امرأة، أما عدد المجني عليهم
فبلغ 9543 فرداً؛ منهم 5609 نساء، و3934 رجلاً؛ ما يدل على أن النساء هن الفئة
الأكثر تأثّراً.
من ناحية
الأحكام القضائية، تمت إحالة 4057 قضية إلى المحكمة، فيما 3992 قضية أُغلِقت
بتسوية ودّيّة، وفيما يخص النتائج القضائية، أصدرت المحاكم 3497 حكماً؛ منها 2639
إدانة، ليصل معدل الإدانة إلى نحو 75%، وهذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الظاهرة، بل
تُشير إلى تزايدها؛ إذ أكّدت الجهات الرسمية أن القضايا تقريباً تضاعفت خلال عامين
فقط، بحسب «عرب تايمز».
الجذور الثقافية والاجتماعية.. العيب والستر
لا يمكن فَهْم
هذا التصاعد دون العودة إلى الجذور الثقافية التي تغذِّي العنف الأسري، فكثير من
الخبراء ينظرون إلى أن الضغوط المجتمعية المتعلقة بالعيب والستر تؤدي دوراً كبيراً
في إبقاء الضحايا في صمت، وتدفعهم للتنازل بدلاً من المطالبة بحقوقهم قانونياً.
منظمات حقوق
الإنسان تشير إلى أن بعض الضحايا يختارون التنازل قبل الوصول إلى الجهات القضائية
خوفاً من وصمة العار أو الانكشاف الأسري، فمنظمة «هيومن رايتس ووتش» ذكرت أن
القانون الجديد (قانون حماية الأسرة) خطوة مهمة، لكنها تحتوي على ثغرات، خاصة أن
بعض الحالات قد لا تُراقَب إذا انسحبت الضحية.
مراقب حقوق الإنسان
هذه الديناميكية
تعكس واقعاً مؤلماً؛ فالضحية عندما تختار التنازل، فإنها غالباً ما تفعل ذلك تحت
ضغوط عائلية ومجتمعية، وليس بدافع التسامح فقط، كما أن هناك دراسات تؤكد أن الصمت
والتنازل ليسا دائماً خياراً سلمياً، بل قد يكونان أداة لإخفاء الجريمة واستمرار
العنف، والضغط العائلي قد يؤدي إلى كبت نفسي، وداخل الأسر قد يُمارَس نوع من التطويع
لإعادة الضحية إلى ذات البيئة الضارة.
القانون الكويتي.. تطور تشريعي ورادع متنامٍ
في أغسطس 2020م،
أقرّ مجلس الأمة الكويتي قانون الحماية من العنف الأسري رقم (16) لسنة 2020م، وهو
تشريع محوري يُعدّ أول قانون من نوعه في الكويت يجرّم كافة أشكال العنف الأسري،
بما في ذلك الجسدي، والنفسي، والجنسي، والمالي، فهذا القانون يمنح الضحايا آليات
للتبليغ، وإصدار أوامر حماية مؤقتة ضد المعتدين، وإنشاء ملاجئ وخط ساخن للدعم
النفسي والقانوني.
وفي سبتمبر 2023م،
صدرت اللوائح التنفيذية للقانون، حيث نصّ القرار على إنشاء صندوق لرعاية الضحايا
وتحديد دور جهات التحقيق (النيابة العامة)، وكذلك آليات إصدار أوامر الحماية، وهذه
اللوائح تُعد خطوة مهمة من الناحية التشغيلية، لأنها ترفق القانون بإجراءات واقعية
تسهل على الضحايا الوصول إلى الحماية الفعلية.
وفي عام 2025م،
شهدت الكويت تعديلاً تشريعياً مهماً؛ تمثل في إلغاء المادة (159) من قانون الجزاء
التي كانت تسمح بتخفيف العقوبة للأم التي تقتل مولودها «بدافع العار»، وهذه الخطوة
وُصِفت بأنها تعزيز لحق الحياة، وإشارة إلى أن القانون الكويتي يسعى نحو معاقبة
الجريمة بغض النظر عن المبررات المشوهة للعار.
التحديات في التطبيق.. ما بين النص والواقع
ورغم وجود قانون
رائد، هناك فجوة واضحة بين النص القانوني وواقع التنفيذ، تتمثل في:
1- التنازل
والتسوية: كما أوردت التقارير، هناك عدد كبير من القضايا يُغلق عبر تسوية ودية
(حوالي 3992 من القضايا في الفترة المذكورة)؛ ما يعني أن العديد من الضحايا يعودون
إلى نفس البيئة التي تعرضوا فيها للعنف.
2- الوصمة
الاجتماعية: الضغط العائلي والمجتمعي يُعد من أبرز عوامل إضعاف إجراءات الحماية؛
لأن الضحية قد تُجبر على التنازل أو الصمت خوفاً من الفضيحة أو تدهور العلاقات
الأسرية.
3- نقص الموارد:
بعض التقارير الحقوقية تشير إلى أن الملاجئ المخصصة للضحايا ما زالت غير كافية،
وأن بعض الجهات الأمنية تفتقر إلى التدريب المتخصص للتعامل مع قضايا العنف الأسري،
فعلى الرغم من وجود خط ساخن ومراكز، فإن التنفيذ لا يزال محدوداً في بعض المناطق.
4- ضرورة تعديل
تشريعات أوسع: هناك دعوات من قانونيين ومنظمات حقوقية لتطوير قوانين الأحوال
الشخصية لتتكامل مع قانون حماية الأسرة.
مبادرات المجتمع المدني والدعم التوعوي
ولمواجهة هذه
التحديات، برز دور فاعل للمجتمع المدني، من خلال منظمات ومبادرات تسعى لدعم
الضحايا، والتوعية، والتغيير الثقافي والقانوني؛ فمنظمة «هيومن رايتس ووتش» (HRW) رحّبت
بإصدار قانون الحماية من العنف الأسري، ووصفت قانون (16/ 2020) بأنه خطوة تاريخية
في الحقوق الإنسانية، لكنها دعت إلى تعزيز تطبيقه وتوسيع نطاق الحماية.
وهناك منظمات
نسائية محلية ودولية، مثل «Equality
Now» ربطت بين
العنف الأسري والقوانين الجنائية التمييزية السابقة، ودعت إلى استمرار تعديل تلك
القوانين لتحقيق العدالة الحقيقية.
بينما جهات
محلية تطالب بتعزيز مراكز الدعم والملاجئ، وتدريبات للشرطة والنيابة للتعامل
بحساسية مع البلاغات الأسرية.
آفاق مستقبلية.. كيف يمكن تعزيز الحماية؟
لم يعد الحديث
اليوم فقط عن قانون، بل عن منظومة متكاملة لحماية الأسر والضحايا، تتمثل في:
1- تطوير وتوسيع
مراكز الحماية: يجب على الدولة والمجتمع المدني العمل على زيادة عدد الملاجئ
الآمنة وتقديم دعم مالي ونفسي طويل الأمد للضحايا، خصوصاً النساء والأطفال.
2- تدريب مكثّف
لأجهزة إنفاذ القانون: من المهم أن تتلقى الشرطة والنيابة والقضاة تدريباً متخصصاً
للتعامل مع قضايا العنف الأسري، وفهم الأبعاد النفسية والاجتماعية للضحايا.
3- تعزيز
التوعية الثقافية والدينية: يجب إشراك المؤسسات الدينية، والمدارس، والمنظمات
المجتمعية في حملات توعية تبيّن أن الستر لا يعني السكوت على العنف، وأن احترام
حقوق الأفراد داخل الأسرة واجب ديني وأخلاقي.
4- تعزيز
التشريع المتكامل: العمل على تحديث قوانين الأحوال الشخصية، مثل قانون (51) لسنة
1984م، ليكون هناك توازن أكبر بين حماية الأسرة من التفكك وضمان حقوق الأفراد، مع
مراجعة القوانين الجنائية ذات الصلة.
5- دعم
المبادرات الأهلية: تمويل ودعم منظمات المجتمع المدني التي تقدم المساعدة
القانونية، والنفسية، والاجتماعية للضحايا، هذه المنظمات تؤدي دوراً لا غنى عنه في
سد الفجوة بين القانون والممارسة.
الحادثة لم تكن
مجرد مأساة فردية، بل صرخة مجتمع أمام تحدٍّ متزايد؛ فالعنف الأسري في الكويت، والأرقام
الأخيرة (أكثر من 9100 قضية في 5 سنوات، ارتفاع بمعدل مضاعف خلال عامين تقريباً)
تظهر أن الظاهرة ليست هامشية، بل مشكلة بنيوية تتطلب استجابة شاملة.
وبينما قدمت
الكويت قانوناً متميزاً (رقم (16) لسنة 2020م) لحماية الضحايا، وتبنت لوائح
تنفيذية ودعماً تشريعياً، تظل التحديات الحقيقية في التنفيذ والتطبيق اليومي على
الأرض، والضحايا كثيراً ما يتنازلون تحت ضغط العائلة والثقافة، وما زالت الموارد
غير كافية لدعمهم بالكامل.
المستقبل يحتاج
إلى تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني لتعزيز التوعية، وتحسين التشريع، وتوفير
حماية فعلية تسقط رادع القانون من مجرد نص إلى قوة حقيقية تمنع العنف وتعيد بناء
الأمان داخل الأسرة.