القناعة عز لا يفنى.. حكاية داود الطائي

مجـلة المجتمع

21 سبتمبر 2025

41

«أصاب داود الطائي فاقة كبيرة، فجاءه حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه وقال: هي من مال رجل ما أقدم عليه أحد في زهده وورعه وطيب كسبه، فقال: لو كنت أقبل من أحد شيئاً ‌لقبلتها ‌تعظيماً للميت، وإكراماً للحي، ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة». (المستطرف في كل فن مستظرف).

أهم المعاني

  • أصابته فاقة: الفاقة تعني الفقر الشديد والحاجة الملحة؛ أي نزل به فقر مدقع.
  • حماد بن أبي حنيفة: هو ابن الإمام أبي حنيفة النعمان، إمام المذهب الحنفي الشهير، كان من العلماء الثقات.
  • تركة أبيه: المال الذي تركه والده (الإمام أبو حنيفة) بعد وفاته وهو ميراث حلال طيب.
  • ما أقدم عليه أحد: ما تجاوزه أحد أو تفوق عليه أحد؛ أي أن زهد أبي حنيفة وورعه كانا على درجة عالية لم يصل إليها غيره.
  • زهده وورعه: الزهد هو التقلل من الدنيا وعدم التعلق بها، الورع هو التحرج من الشبهات وترك ما يُخشى ضرره في الآخرة.
  • طيب كسبه: حلال ماله وخُلُوّه من الشبهات؛ أي أن مصدر أمواله كان نظيفًا ومشروعًا.
  • تعظيماً للميت: تكريماً وإجلالاً لشأن المتوفى (الإمام أبي حنيفة).
  • إكراماً للحي: تكريماً للشخص الحي (وهو حماد بن أبي حنيفة) الذي جاء بالمال وأظهر التقدير.
  • في عز القناعة: في شرف وكرامة الاكتفاء بالقليل وعدم الحاجة إلى سؤال الناس أو أخذ أموالهم، القناعة هنا ليست ذلة أو هواناً، بل هي عزة وارتفاع بالنفس.

دروس وعبر

تقدم القصة موقفًا أخلاقيًا رفيعًا بين عالمين جليلين، فمن جهة، نجد داود الطائي الذي يعيش في فقر مدقع؛ ما يجعله في أمسّ الحاجة إلى المساعدة، ومن جهة أخرى، نجد حماداً بن أبي حنيفة الذي يأتيه بمال حلال طيب من تركة والده العادل الورع، مقدماً إياه بطريقة تليق بمقام داود، مبرزًا فضل المال ومصدره.

الرد المفاجئ والمليء بالحكمة من داود الطائي يكشف عن عمق مبدئه؛ فهو لا يرفض المال بسبب شك في حله، بل لأنه يريد الحفاظ على مبدأ أعلى وهو عز القناعة، ورفضه ليس رفضًا للمال نفسه، بل هو إيثار لعزّة النفس وكرامتها الداخلية.

ويمكن أن نستخلص من هذه القصة الدروس والعبر التالية:

1- عزة النفس وكرامة الروح: أعظم درس في القصة هو أن كرامة الإنسان وعزته لا تقدر بثمن، حتى لو كان الثمن التخلص من فاقة شديدة، والشرف المعنوي أغلى من المال المادي.

2- الورع والزهد الحقيقي: الزهد ليس مجرد فقر، بل هو اختيار وقناعة داخلية، فداود الطائي يرفض المال وهو في أمسّ الحاجة إليه؛ ما يظهر زهده الحقيقي الذي لا يتزعزع عند المحن.

3- تقدير النيات والمقاصد: حماد لم يأتِ بالمال فقط، بل جاء مقرونًا ببيان مصدره الطيب وفضل مالكه الأصلي؛ وهذا يعلمنا أهمية طريقة تقديم المساعدة والمعروف، بحيث تحترم مشاعر الطرف الآخر.

4- طيب الكسب وأهميته: اشتراط حماد أن المال من مصدر طيب يدل على أهمية الحلال في كل شيء، حتى في الصدقات والتبرعات، فالمال الحلال له بركة وقبول خاص.

5- التوازن بين الحقوق: يظهر داود الطائي توازنًا أخلاقيًا رائعًا؛ فهو يعترف بفضل الميت (أبي حنيفة)، ويقدر جهود الحي (حماد)، ولكن مبدأه الشخصي الذي ارتضاه في حياته كان أقوى، إنه يرفض بلباقة وحكمة، مع الاعتراف بالجميل.

6- الحكمة في الرفض والقبول: يكون الرفض في مكانه أعظم من القبول، رفض داود للمال كان درسًا أخلاقيًا بقي يتناقله الناس عبر القرون، في حين أن قبوله للمال كان سينسى مع الوقت.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة