القيم العقلية في القرآن.. كيف كرَّم الإسلام العقل ودعا إلى التفكير؟

اهتم الوحي بالعقل ووظائفه وبالدفع لكل ما ينمي ويحفز تلك الوظائف، وإذا كان الوحي يمثل المصدر الأول لمنهج الفكر الإسلامي باعتباره منشئ الأحكام، ويحتوي على المبادئ الكلية والتصورات الأساسية للمسلم، فإن العقل يمثل الجانب البشري لهذا المصدر الإلهي، غير أنه ملتزم بالمعطيات الإلهية فيما يصدر عنه من مخرجات فكرية تلتزم بالرؤية الإسلامية.

فالعقل مكتشف للقوانين المبثوثة في الكون وهو أداة الفهم والإدراك والنظر والتلقي والتمييز والموازنة، وهو وسيلة الإنسان لأداء مسؤولية الوجود والفعل في عالم الشهادة والحياة، والعقل بما أودع من فطرة، إلى جانب أنه الوسيلة الأساسية للإدراك، فهو موجه الإنسان ودافعه ووسيلته في طلب علم الغيب والتلقي عن رسالات الوحي، والعقل هو الذي يميز بين الوحي الخبر الموثق، والدجل والخرافة والكهانة الكاذبة الفاسدة الضالة، وهو الذي يمكن الإرادة الإنسانية من الخيار ويضعها أمام مسؤولية المسلك والضمير(1).

والإسلام الذي أقام حضارة من البداوة إلى الرقي والتحضير، إنما جعل للعقل من الأولوية والسلطان في ذلك البناء الحضاري بما مكَّنه من إنتاج حضارة إنسانية أرست دعائم علوم ومعارف لم تشهدها البشرية من قبل، وأقامت عليها الحضارة المعاصرة بناءها العلمي والمعرفي، ويقوم منهج الوحي في النظر للعقل على عدد من المبادئ أهمها(2):

  • أن معرفة العقل بداية كل معرفة ومنطلق كل بحث.
  • أن معرفة العقل لن تكون إلا بآثاره وآياته.
  • أن وجدان العقل هو الطريق إلى وجدان الحقيقة وتميزها عن الباطل.

تحرير العقل

حرص الوحي على إزالة كافة العوائق التي تقف في سبيل تحقيق الوظائف الفكرية والمعرفية للعقل، وعمل على تحرره من كل أوهام التقليد البالية والخرافات والتبعية فذم التقليد في مقابل الاستقلالية؛ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (المائدة: 104)، ونهى عن الشك المطلق في مقابل الحق؛ (إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس: 36)، ونهى عن اتباع الهوى أو التحيز في مقابل الاستقامة؛ (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26)، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) (المؤمنون: 71)، ولم يعتبر السحر من وسائل المعرفة في مقابل البحث والدراسة؛ (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69).

والعقل يحتل مكانة مهمة في الفكر الإسلامي؛ نظرًا لأنه يشكل موقعًا فريدًا ومتميزًا في المنهج الإسلامي، فهو يمثل الصلة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ومن خلاله يلقى المنهج الإلهي على الواقع البشري، ومن خلال وظائفه يتعرف الإنسان على خالقه، وعلى غاية وجوده، وعلى مصيره، وعلى كينونته، كل ذلك من خلال التعرف على التوجهات الإلهية وإبلاغها وتنفيذها؛ فلا مجال لوجود الإنسان كإنسان ولا مجال للتلقي عن رسالة الوحي كمصدر للمعرفة والتوجيه والعلم، ولا مجال لمسؤولية الخلافة والإعمار دون وجود العقل، ودون دور العقل، ودون فطرة العقل في معطياته وقدراته وبديهياته في الإدراك والفهم والتمييز، وما تدل عليه وتدعو إليه من مقاصد الخير والعطاء.

العقل والنقل

من ناحية أخرى، فإن النظرة القرآنية للعقل البشري تؤكد نفي إشكالية التعارض بين العقل والنقل، التي وصلت في مداها لدى البعض بإلغاء دور العقل تماماً ولدى البعض الآخر بتقديس العقل وتقديمه على النقل، وهي إشكالية شبه مفتعلة، حيث إن النقل في الإسلام هو الذي وضع للعقل مكانة رفيعة ثم حدها بحدود في التصورات والوظائف، وعليها يسير العقل، فكما أن الله خلق الكائنات بعضها فوق بعض فقد جعل أيضًا للعقل مكانًا للوحي مكانًا أعلى منه.

وقد ظهر واضحًا التقاء الوحي والعقل في كثير من معطيات التراث الإسلامي، خاصة في الفقه، ومما هو ذو مكانة الاستحسان والمصالح المرسلة، وكل ذلك وغيره من أنواع الاجتهاد العقلي، ومما هو ذو مكانة رفيعة وأصيلة في هذا التراث، هذا فضلاً عن اختلاف الرؤى الفقهية لمدراس فقهية كبيرة ولفقهاء آثروا إعمال عقولهم على التقليد فاجتهدوا، وكل ذلك لأن الإسلام لم يحرم الفكر الصحيح ولم يضع قيوداً لتحريم أو تجريم الاجتهاد، فكان من شأنه أن التقى الوحي والعقل للهداية، والمصلحة معًا، فالفكر الإسلامي يعتمد في مصدريه الرئيسين على الوحي (القرآن والسُّنة) ومعطيات العقل المبصر لوظيفته العليا ووظيفته الكونية.

ملامح تربية العقل في القرآن

المتأمل في تضمينات الوحي العقلية يلاحظ أن القرآن وضع إطارًا واضحًا لتربية العقل وتنميته وتحسينه وتطويره:

  • تنمية الإنسان فكريًا، بحيث يكون إنسانًا عابدًا صالحًا، (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ) (آل عمران: 191).
  • استخدام الحواس في تنمية هذا الجانب؛ (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (يونس: 101).
  • تنمية العقل الإنساني وقدراته المختلفة عن طريق الفكر العلمي التجريبي بمحتوياته ومشتملاته؛ (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ) (الملك: 3).
  • إتاحة الفرصة والتدريب على الانفتاح الفكري على الماضي، وما فيه من خبرات؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111)، وعلى الحاضر وما فيه من مشكلات استشرافًا للمستقبل؛ (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر: 18)، بحيث يستفيد من الخبرات المختلفة، ما دامت مفيدة، ويرفض ما يضره على وجه العموم.
  • الاهتمام بتربية البصيرة، وذلك عن طريق التقوى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: 282).

قيم إصدار الأحكام في القرآن

ويقدم القرآن مجموعة من القيم العقلية في قبول الأخبار وإصدار الأحكام وهي العمل الجوهري للعقل، ومنها:

  • التثبت: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36).
  • تجنب الشك بغير دليل: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (يونس: 36)، (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) (الحجرات: 12).
  • الموضوعية ورفض التحيز: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26).
  • الخبرة والتخصص: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (النحل: 43)، (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (يونس: 39).
  • التواضع العلمي: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 85)، (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) (النجم: 32).
  • تأسيس العقل والوجدان على الحق واليقين في مقابل الشك والارتياب؛ (أَفِي اللهِ شَكٌّ) (إبراهيم: 10)، (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (الإسراء: 49).
  • رفض كل ما يتنافى مع العقل مثل: قبول التناقضات وجمع الأضداد في آن واحد: استنادًا إلى القاعدة القرآنية: (لَا يَسْتَوِي)، البحث عن الحق والحقيقة، والدلائل والبراهين؛ (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (النمل: 64).
  • إحياء فضاء وفضيلة؛ (وَيَسْأَلُونَكَ)؛ وقد وردت في القرآن 13 مرة، ووجهت للنبي صلى الله عليه وسلم لبيان طبيعة الرسالة وطبيعته.
  • التعقل: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 73)؛ أي فحص القضايا والموضوعات للوقوف على الحقيقة فيها والزيف منها، وعدم التسليم بالأخبار أو الشائعات حتى وإن اعتقد فيها الأكثرية.

الوعي بالبحث القرآني لقيم العقل والعقلانية

يتضمن الشكل الآتي إطارًا عامًا للبحث العلمي لقيم العقل والعقلانية في القرآن الحكيم نقدمه للباحثين والمهتمين بموضوع القيم عامة والقيم العقلية خاصة، وللدرس المعرفي للقرآن بشكل أساس، يتضمن 3 محاور؛ الأول: مفردات القيم العقلية في القرآن، الثاني: موضوع القيم العقلية في القرآن، والثالث: مجالات القيم العقلية في القرآن.


 

شكل يوضح إطار عام للبحث العلمي لقيم العقل والتعقل في القرآن الحكيم.

في ضوء ما تقدم، فإننا ندعو إلى تمكين البحوث الاجتماعية في القرآن لاستنباط أهم متطلبات الاجتهاد المعرفي للمجتمع المسلم المعاصر والإسهام المعاصر في حل إشكالاته، وذلك عبر بناء مقدمات لعلم الاجتماع تستند إلى منهجية القرآن، كذلك فإن التعليم الفقهي في حاجة ماسة إلى مركزية القيمة العقلية والاجتهاد المعرفي للاستجابة للمستجدات القائمة والمحتملة.



___________________

(1) عبدالحميد أبو سليمان: أزمة العقل المسلم، ص 119.

(2) راجع عبدالحميد الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والسُّنة، ص161.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة