صفحات مضيئة من حياة رائد الإعجاز العلمي (1)

د. زغلول النجار.. بين الكتَّاب والسجن الحربي ورحلة التكوين والصمود

قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، أحْسَب د. زغلول النجار من أولئك المؤمنين صدَقَ اللهَ تعالى وصبر على ما أصابه، ولقد كان يحمل هَمَّ الأمة معه حيثما كان وهو من العظماء أمثال القرضاوي، والغزالي، وقطب، والسميط، وبن نبي، وبن عاشور، ومحمد رشيد رضا الذين تجاوزت أعمالهم البقاع الضيقة المحدودة، وبلغت كافة أرجاء المعمورة، والحق يقال: إن مهاراته تفوق كثيراً من أعلام الدعوة لإتقانه عدة لغات إلى جانب فصاحته العربية.

وأعلم أن كثيراً من أحبائه كتبوا عنه وأثروا الموضوع، بل هناك من أعد رسالة دكتوراة عنه وعن منهجه، لكنني سأتطرق هنا إلى سيرته رحمه الله بطريقة تختلف عن الطريقة الأكاديمية المعهودة، فسأتناولها على طريقة سير الصالحين بذكر بعض ما مرت به من أحداث ولطائف، وهو الذي تحفل سيرته بالقصص المعبرة والأحداث الملهمة، ويتجلى للمرء فيها حسن ثقته بالله وتوكله عليه.

والحديث عن عطاء المفكر الإسلامي وأستاذ الجيولوجيا د. زغلول النجار لا ينتهي، ولعلنا في هذه المقالات نكتفي بذكر طرف منها على نحو سير الصالحين دون أن نوغل في الجوانب الأكاديمية منها.

وقد ترك رحمه الله في هذه الدنيا الفانية بصمات لا يمكن الغفلة عنها، والحق أني كلما تذكرت جلساتي معه أُسَرُّ بها حتى الآن بعد مرور كل تلك السنوات، وأدعو له ولم أنقطع عن الدعاء له منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة.

لقاءات لا تنسى في الظهران

بدأت معرفتي بالدكتور زغلول راغب محمد النجار حين انتقل من جامعة الكويت إلى جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران وأنا في سنتي الثانية فيها؛ أي عام 1977م تقريباً، وما زلت أذكر قدومه من الكويت بسيارته السيتروين الفرنسية التي يظهر لي أنه أحبها، فبعد أن أصبحت قديمة اقتنى أخرى مثلها جديدة، فكان كل من يزوره يرى سيارتين متماثلتين عند بيته.

وعندما وصل إلى الظهران سبقه إلينا ثناء عليه كبير، وتوالت التوصيات عليه من العاملين في العمل الخيري والدعوي في الكويت، والحث على عدم تفويت الاستفادة منه في الدعوة إلى الله؛ لعظم إمكاناته في الحديث عن الإسلام والدعوة إلى الله وإسقاطاته المتميزة للحقائق العلمية على ما جاء في القرآن والسُّنة، وإيصال الفكر الإسلامي النقي إلى غير المسلمين، والتحدث مع من طغت عليهم مظاهر الحضارة الغربية.

فقلت في نفسي: هذا رجل لا بد من التعجيل بلقائه، ولم يمض كثير من الوقت حتى دعينا للاستماع إليه عند أحد الأساتذة؛ فسررت بذلك أيما سرور، وأعجبت بالرجل كثيراً، فقد وجدته كالمغناطيس يجذب الآخر نحوه بسمو خُلُقه وعلو كعبه في العلم وتواضعه الجم.

من حينها لم تنقطع صلتي به إلى أن استقر في الأردن بعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف عقد، حيث بعدت المسافة بيننا، ولم يكن بيته رحمه الله يخلو من الزوار أينما أقام، وكان الإخوة من جمعية الإصلاح في البحرين يطلبون زيارته كلما قدموا إلى الظهران، وكان رحمه الله يأنس بهم، ولم تنقطع مثل تلك الزيارات حتى بعد إنهائي دراسة الماجستير هناك، بل حتى بعد رجوعي من الدكتوراة،

وكان شهر رمضان شهراً مميزاً لزيارته مع عدد من الإخوة، ولم أكن أفوّت مجيئه إلى البحرين فألتقي به، وكان من فضل الله عليَّ أن استضفته عندي في البيت أكثر من مرة، وقد صاحبه في إحداها الأستاذ غالب همت الذي قدم لأعمال له تتعلق بإنشاء البنوك، وأذكر أني رأيته في تلك الزيارة مهموماً فبادرته بالحديث قبل أن يسبقني إليه أحد في المجلس: أراك على غير سجيتك! فقال لي: نعم، وعرفت منه السبب أنه بعد عمل طويل لإنشاء بنك التقوى في سويسرا وبعد بداية ناجحة حجزت الحكومة السويسرية على البنك وأصوله وغلب على ظنه أن أياديَ خفية كان لها أثر في وأد المشروع في بدايته بدعوى تمويل الإرهاب، ثم استمر في حديثه قائلاً: لن يثنينا ذلك عن العمل للإسلام، والله خير وأبقى.

الطفولة والشباب والوظيفة

ولد د. زغلول النجار في قرية مشال بمركز بسيون في محافظة الغربية بمصر، في 29 رجب 1352هـ/ 17 نوفمبر 1933م، وكان والده يعمل مدرساً بإحدى مدارس المركز، وحرص على غرس قيم الدين الحنيف وأخلاق الإسلام العالية في نفوس أبنائه، كما كان يحرص عند اجتماع أسرته على الطعام أن يناقش معهم موضوعاً في السيرة النبوية، وأحياناً في الفقه أو الحديث.

أما جده فقد كان إمام مسجد قريته، وقد حفظ د. زغلول القرآن كاملاً وهو صغير في الكتّاب وعمره ثماني سنوات تقريباً، ثم انتقل مع والده بعد حفظه القرآن إلى القاهرة لإنهاء دراسته الابتدائية ثم الثانوية في مدرسة شبرا عام 1946م، وكان ذلك في عهد الملك فاروق، وكان ترتيبه متقدماً بين أوائل الطلبة في مصر.

ومن لطيف ما ذكره د. زغلول أن مدير المدرسة طلب منه المشاركة في مسابقة في اللغة العربية لمّا لاحظ ملكة الحديث عنده وتميزه اللغوي وحسن منطقه، يقول: فرفضت حياء من أستاذي الذي كان يشارك في المسابقة ذاتها، وبعد إصرار من المدير وافقت، وعند ظهور النتائج كنت الأول بين الجميع، بينما حاز أستاذي المرتبة 42.

دخل د. زغلول كلية العلوم (قسم الجيولوجيا) بجامعة القاهرة بعد تفوقه في الثانوية عام 1951م، وكان يرأس القسم حينها أستاذ ألماني، وتخرج عام 1955م بمرتبة الشرف، وكان الوحيد بين كل من هم في دفعته الذي حصل على تلك المرتبة، وأثناء تلك المرحلة تشبع بالفكرة الإسلامية وضرورة العمل للإسلام، والتقى بكثير من قيادات العمل الإسلامي حينها وتأثر بفكرهم، فقد كان متهيئاً لحمل الدعوة للإسلام، حيث تربى في أسرة متدينة، وكان واسع الثقافة والاطلاع ومتحمساً لخدمة الدين، فوافق حرصه على العمل إلى الإسلام سجية فيه.

في مواجهة المحنة.. رؤيا السجن العجيبة

ناله في شبابه رحمه الله نصيب من الابتلاء؛ حيث اعتقل فيمن اعتقلوا في سنوات المحنة، وأودع السجن الحربي وتوطدت صلاته هناك برجال الدعوة الإسلامية، وسمع من قادتها بشكل مباشر، ثم قدّم للمحاكمة في محكمة عسكرية، ولم يثبت عليه شيء يدينه؛ فأطلق سراحه بعد مدة.

وله في ذلك حكاية قصها عَلَيَّ عندما كنت في الظهران، قال: بعد أن قضيت في السجن تسعة أشهر بين الاستجواب والمحاكمة علمت أن المحاكمة النهائية قد دنت، وأن النطق بالحكم قد اقترب، وكنت حينها في قلق شديد؛ أأنطق بما يريده مني المسؤولون بما يخالف منهجي وإيماني وطبعي وبذاك أتمكن من مواصلة دراستي وتحصيلي العلمي وأتخلص من كابوس السجن الحربي، أم أقول ما يمليه عليَّ إيماني وأتحمل تبعات ذلك وعواقبه!

يقول: نمت وأنا على هذه الحال من الهم والغم والاضطراب في الفكر والنفس في ساعة كالحة من ذلك الزمن، فرأيت فيما يرى النائم في ليلة النطق بالحكم أني دخلت قاعة واسعة مسفرة، ثم قام ضباط فيها بمحاكمتي وأنا أجيبهم بثقة وطمأنينة دون خوف أو وجل بما يمليه عليَّ قلبي المؤمن المطمئن إلى قدر الله.

ويضيف: قمت من النوم وأنا في غاية الطمأنينة، وعزمت على الأخذ بالحزم وقول الحق دون أن أخون ديني وأمانتي، وعندما أصبحت أخذوني إلى قاعة المحكمة فإذا هي كما كانت في الحلم، لكنها نسخة مصغرة منها بدون الإنارة التي رأيتها في المنام، فقلت في نفسي: وهذه ثانية!

بدأت المحاكمة، وأنا أجيبهم بما عزمت عليه من قول الحق، وبما يمليه علي ديني وإيماني دون مراوغة، والحق أنهم لم يكونوا معي بالسوء الذي توقعته في تلك المحاكمات النهائية، ولعل ذلك يعود إلى أن بعض أخوالي من كبار الضباط تدخلوا كي لا يذهب تفوقي هباءً، ولم يجد القضاة من الضباط شيئا يدينني، فأفرجوا عني. ومع أن المحققين لم يجدوا أي أمر يدينه، وأن القضاة من العسكر قد أفرجوا عنه، فإنهم ضيقوا عليه في معاشه، وفي الحصول على عمل يليق به في الجامعة وفي غيرها. كان كلما بدأ عملاً أنهيت خدمته بعد أشهر قليلة، بحجة أن الجهات الرسمية لم توافق على توظيفه. ولا شك في أن انتماءه الفكري أثَّر على مسيرة حياته؛ وإن أثّر ذلك سلباً في بداية حياته، فإنه غدا يشار إليه بالبنان لاحقاً.


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة