رمضان.. أولويات في الإعداد والعمل

حل علينا شهر رمضان المبارك بنفحاته وجوائزه
وأجوائه التي ينتظرها أبناء الأمة الإسلامية بشوق في مشارق الأرض ومغاربها، وهو شهر
خصه الله تعالى بالحديث عنه في القرآن الكريم وميزه بأعلى مكرمة (نزول القرآن الكريم)،
وحدثنا عنه النبي وربطه بركن الإسلام (الصيام) في كثير من أحاديثه ومواقفه، وترك لنا
نبعا متدفقا من السنن والآثار في حسن استقباله والتعامل معه وكيفية الظفر والفوز به،
كما انبرى إليه أهل السلف والعلم من عصر الصحابة ومن جاءوا بعدهم ببيان ما يحمله من
فقهيات ومعان وأسرار وحكم ومقاصد، لا يكاد يخلو زمان إلا والمكتبة الإسلامية تتزود
بما يسطره هؤلاء العلماء والدعاة بما يعرضون فيها من جميل كلامهم عنه وحسن التقاط جواهره
وكنوزه منه، وفي هذا المقال المبارك أسطر لك بعضا من المساهمة العملية في التعامل معه
ونظرة مهمة في رؤيته، تدفعنا إلى جمال النتائج من خلال أولويات الإعداد والعمل، كتب
الله لنا من خلالها حسن المقصد وصلاح الحال والمآل.
أولا: حرر نفسك: فالصيام عبادة الأحرار، وهو عتق النفس الإنسانية من كل رق، وقد جعله الله معادلا لتحرير الرقاب وبديلا عنها في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم (في القتل الخطأ – " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله" - وفي الظهار " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا "- وفي كفارة اليمين " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ") والكلام على الحرية أصبح مهما غاية الأهمية في زمن أخذت أشكال العبودية لغير الله صورا حياتية معاصرة لم تعرفها دواوين الرق والعبودية القديمة، وهي متعددة في زماننا سواء كانت لدول أو لأشخاص أو لأفكار أو لمدارس أو لشهوات وعادات، عافانا الله من كل رق لغيره ومن كل عبودية لسواه، ولذا فإن الصيام يأتي في أولويات الإعداد والعمل للخروج من قيعان الرق أيا كان شكله إلى سماء الحريات في ظلال شرع الله ورسوله ومنهجه، ولذا يجب أن تنظر حالك وأشكال الرق في حركتك وتخلص منها من خلال نيتك المعقودة وعزمك الواثب وعملك المتقن في هذا الشهر الكريم واستنشق رياح الحرية معه.
ثانيا: احذر مصيدة التسلل: فالوقوف في منطقة
الحظر وتكرر نفس أخطائك في العام الماضي ثم
انتظار نتائج مختلفة يعد أمرا من الاستخفاف والسذاجة، وتضييعا للفرص والأوقات وهذا
أبعد عن تسجيل الأهداف الإيمانية، والفوز بمباراتك مع النفس والشيطان والهوى والدنيا
والعادات، التي قد تندم عليها، فلا تكن كأبي عزة الجمحي، فعند البيهقي عن سعيد بن المسيب:
قَالَ: أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أَبَا عَزَّةَ عَبْدَ
اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ الْجُمَحِيَّ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ:
يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي خَمْسَ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ شَيْءٌ فَتَصَدَّقْ بِي عَلَيْهِنَّ،
فَفَعَلَ، وَقَالَ أَبُو عَزَّةَ: أُعْطِيكَ مَوْثِقًا أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا
أُكْثِرَ عَلَيْكَ أَبَدًا، فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ
إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ: اخْرُجْ مَعَنَا، فَقَالَ:
إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُ مُحَمَّدًا مَوْثِقًا أَنْ لَا أُقَاتِلَهُ، فَضَمِنَ صَفْوَانُ
أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتِهِ مَعَ بَنَاتِهِ إِنْ قُتِلَ، وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالًا
كَثِيرًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأُسِرَ
وَلَمْ يُؤْسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أُخْرِجْتُ
كَرْهًا وَلِي بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: "أَيْنَ مَا
أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ؟ لَا، وَاللهِ لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ
بِمَكَّةَ تَقُولُ: سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ:
فَقَالَ النَّبِيُّ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ،
يَا عَاصِمُ بْنَ ثَابِتٍ قَدِّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ". فَقَدَّمَهُ فَضَرَبَ
عُنُقَهُ.
فإياك أن تنوي وتقدم عهدك مع الله على نفس الشاكلة التي نقضها سالفا وإن كان الله بك رحيما فتدبر.
ثالثا:نفذ استراتيجية العمل الواحد: وأعني به العمل الذي تركز عليه وتجعله صاحبك في هذا الشهر لا تنفك عنه ولا ينفك عنك تكثر منه وتحسنه وتقدمه، وهذه الاستراتيجية أمر تعارف عليه الصالحون وتواتر عليه السلف من الأنبياء والمرسلين مع كثرة ما قدموه من أعمال إلا أنهم عرفوا به كما جاء في القرآن في ذكر الأنبياء والمرسلين " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا" " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا" " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا" "واذكر في الكتاب لإدريس لإنه كان صديقا نبيا" وقال الله تعالى في حق يونس عليه السلام " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " ومن السنة الكثير والكثير فعند البخاري ومسلم / عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلاَلٍ: «عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ» قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ " وفي رمضان عرف النبي واشتهر بعمل واحد أو عملين محددين الجود والمدارسات القرآنية- البخاري ومسلم / عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
وهذا أنفع لك وآمن لرمضانك وأفرح لقبك إذ عمل واحد دائم وقد قطعت معه رمضان إلى آخره أولى من فتح هويس الأعمال المنقطعة التي لا تحسن إتمامها ولا تصل لغايتك من خلالها
واختيار العمل الضابط فيه ثلاثة أشياء" ما تخلص فيه لربك - وتحسن صنعه وأدائه – وتجد فيه نفسك وقلبك –"
رابعا: جمال الانتقال بين الفردية والجماعية: فلا تترك نفسك للذاتية الكاملة والفردية المفترة، فهذا له وقته وميدانه، ولكن اجعل دوما لك من الأوراد الجماعية التي وضع فيها ما لم يوضع في غيرها من البركات والجوائز وقد قال الله "سنشد عضدك بأخيك " وكان رسول الله يجمع بين أوراده الخاصة وحضوره الجماعي مما هو معروف ومكتسب من الخير والمردود، وكن كهذا المحب الذي أعد للجنة محبة الله ورسوله والمؤمنين فعند البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا». قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» قَالَ أَنَسٌ: «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ» وكقاتل المائل الذي تاب ونصح بعباد الله الذي يجد قلبه معهم وينعم بأنس صحبتهم " انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ ...الحديث".