د. زغلول النجار.. من الجيولوجيا إلى نور الوحي وصناعة الإيمان بلغة العلم

يُمثل رحيل العلَّامة أ.د. زغلول راغب النجار خسارة جليلة للعلم والدعوة، فقد طوى برحيله صفحة من أنضر صفحاتهما، كان الفقيد ظاهرة فريدة نجحت في الجمع بين المختبر والمنبر، وبين صرامة الباحث وحرارة الداعية، وبين يقين الإيمان واتساع الكون، برحيله يخبو صوتٌ طالما حمل هَمّ القرآن إلى العالم بلغة يفهمها أهل العصر، وتفقد الأمة أحد أعمدتها الذين صاغوا الوعي المعاصر بالإعجاز العلمي وأعادوا إليه اتزانه وهيبته.

لم يكن د. زغلول مجرد عالم، بل كان مدرسة أعادت للإعجاز العلمي هيبته، وربطت الحقيقة العلمية بهداية الوحي ربطاً مؤثرًا، كان حضوره في الفضائيات والمؤتمرات بمثابة بوابة واسعة أعادت القرآن إلى دائرة النقاش العلمي، وقدمت الإسلام في صورة مشرقة تجمع بين العقل والدليل والروح.

بطاقة حياة.. المسيرة التي صنعت هذا الرجل

وُلد د. زغلول النجار في قرية مشال بمركز بسيون في محافظة الغربية (17 نوفمبر 1933م) في أسرة قرآنية؛ فجده إمام القرية، ووالده من حفظة القرآن، أتمّ حفظ القرآن صغيراً، وانتقل إلى القاهرة وتفوق في تعليمه، حتى التحق بكلية العلوم بجامعة القاهرة وتخصص في الجيولوجيا في قسم حديث الإنشاء آنذاك.

كان د. النجار مدرسة أعادت للإعجاز العلمي هيبته وربطت الحقيقة العلمية بهداية الوحي ربطاً مؤثراً

تخرج عام 1955م بمرتبة الشرف الأولى، وكان أول من نال «جائزة بركة لعلوم الأرض»، ورغم تفوقه، حال نشاطه العام واعتقاله دون تعيينه معيداً، فتنقّل بين شركات البترول ومناجم الذهب والفوسفات في وادي النيل وسيناء، وكسب قضية ضد الجامعة لتعيينه، لكنه فُصل مجدداً بعد عام بقرار سياسي.

لم تمنعه هذه التحديات، فشقّ طريقه العلمي بالخارج، وحصل على درجة الدكتوراة في الجيولوجيا من جامعة ويلز ببريطانيا عام 1963م، وتدرّج في مناصب أكاديمية في جامعات عربية وعالمية بارزة، من جامعة عين شمس، إلى جامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة الكويت (التي أسس بها قسم الجيولوجيا)، وجامعة قطر (التي أسس بها أيضاً قسم الجيولوجيا)، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، بالإضافة إلى عمله كأستاذ زائر في جامعتي ويلز وكاليفورنيا، وأشرف خلال مسيرته على أكثر من 35 رسالة ماجستير ودكتوراة.

جعل من الإعجاز جسراً لإحياء الإيمان في القلوب ووسيلة لإثبات صدق الوحي في زمن طغت فيه المادية والشكوك

امتد عطاؤه الدعوي ليشمل قارات العالم، من كندا وأمريكا إلى أستراليا وجنوب أفريقيا؛ محاضراً وخطيباً في الإعجاز العلمي، وتوفي رحمه الله في عمّان يوم 9 نوفمبر 2025م، ودُفن في مقبرة أم القطين.

مشروعه الفكري والدعوي.. منهج علمي وتأصيل

شكّل مشروع د. زغلول النجار منهجاً علمياً متماسكاً للإعجاز العلمي، قائماً على الضبط والتحقيق لا على التهويل والادعاء، وقد حرص دائماً في مقدمات كتبه على وضع ضوابط صارمة لهذا الحقل، مؤكداً ضرورة التفريق بين الحقيقة العلمية القطعية والنظرية العلمية التي قد تتغير، والإشارة القرآنية والتفسير القسري للنص، وأن القرآن يظل كتاب هداية قبل أن يكون كتاب علوم.

بهذا المنهج، واجه موجات الإفراط والتفريط في مجال الإعجاز، مصححاً المسار ورابطاً بين البرهان العلمي والإيمان القلبي، وكان خطابه الدعوي يقوم على قاعدة جوهرية هي أن «لغة العصر هي لغة العلم»، فجعل من الإعجاز جسراً لإحياء الإيمان في قلوب الشباب، ووسيلة لإثبات صدق الوحي في زمن طغت فيه المادية والشكوك.

حمل هذا المشروع إلى العالم عبر الإعلام والبرامج الكبرى، مثل حلقته الشهيرة مع الإعلامي أحمد منصور في «بلا حدود»، وحضوره مع الإعلامي الراحل أحمد فراج في «نور على نور»، التي عرّفت الملايين بالإعجاز العلمي، كما جاب المؤتمرات والمناظرات، وأدّت محاضراته في الغرب إلى إسلام عدد من الباحثين والعلماء بشهادة مرافقيه.

لم يكتفِ بذلك، بل دافع عن الحضارة الإسلامية وبيَّن دورها في تأسيس العلوم، رافضاً مقولات القطيعة بين الإسلام والمعاصرة، ومواجهاً حملات التشكيك الغربية بلسان علمي دقيق وإلمام واسع بعلوم الأرض والكون.

موسوعاته الكبرى.. تأسيس مدرسة متكاملة

ترك د. النجار تراثاً موسوعياً ضخماً أسّس مدرسة في الإعجاز، جامعاً بين دقة الجيولوجي وسعة المفسر وإشراق الداعية:

1- «الموسوعة الميسرة للإعجاز العلمي» (5 مجلدات): شملت السماء، والأرض، والإنسان، والحيوان، والنبات، وتميزت هذه الموسوعة بالجمع بين النص القرآني والحقائق العلمية القطعية، مع أسلوب يسهّل الفهم ويقدّم شواهد كونية مرتبة، مبيّنة كيف تعامل القرآن مع حقائق لم تُدرك إلا بعد قرون، في إطار تفسير منضبط.

منهجه تميز بالجمع بين صرامة الباحث وروح الداعية منطلقاً من رؤية تقيم جسوراً بين العلم التجريبي والعقيدة

2- «تفسير الآيات الكونية» (4 مجلدات): تُعد هذه الموسوعة محاولة رائدة لوضع منهج للتفسير العلمي قائم على الضوابط الشرعية واللغوية، بعيداً عن التحميل التعسفي للنص، وقدم فيها تفسيراً لعدد كبير من الآيات بأسلوب يجمع بين العلم والدعوة، ويصلح كمرجع أكاديمي.

3- موسوعة «من آيات الإعجاز العلمي» (3 أجزاء): كتب مقدمتها الإعلامي أحمد فراج، وتضمنت الموسوعة عشرات النماذج التي تكشف دقة الاستنباط الكوني وصور الإشارات العلمية في القرآن، مع ضرب أمثلة موثقة من علوم الأرض والفيزياء والطب.

4- «موسوعة الإعجاز التاريخي والإنبائي»: عمل فريد تناول أكثر من 100 نص قرآني تتجلى فيها أوجه الإخبار عن أحداث تاريخية لم تُعرف إلا لاحقاً، وبذلك مثّلت عملاً قيماً في الرد على المستشرقين، وفي بيان أن القصص القرآني قائم على حقائق تاريخية تثبت صدق الوحي.

كتابان فريدان في مشروعه

برز ضمن إنتاج د. النجار كتابان لهما أثر خاص في مشروعه:

الأول: «مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي»: يُعد هذا الكتاب من أهم المؤلفات المنهجية في هذا الحقل، حتى غدا صالحاً أن يكون مقرراً دراسياً لشموله، رسّخ فيه المنهج والضوابط الأساسية للتعامل مع الإعجاز، كالتمييز بين الحقيقة والنظرية، ومراعاة اللغة والسياق، وعدم تحميل النصوص ما لا تحتمل، والاقتصار على الحقائق القطعية.

ترك تراثاً موسوعياً ضخماً أسّس مدرسة في الإعجاز جامعاً بين دقة الجيولوجي وسعة المفسر وإشراق الداعية

الثاني: «خواطر في معية خاتم الأنبياء والمرسلين»: يكشف هذا الكتاب عن الجانب الوجداني والإيماني في فكر د. النجار، بعيداً عن المختبر والكونيات، تناول فيه مواقف مختارة من السيرة النبوية بأسلوب تدبري تربوي، يهدف إلى إحياء القدوة، مقدماً السيرة لا بوصفها تاريخاً، بل معية روحية وصحبة تهذب القلب وترفع الوعي.

كتبه الفكرية والحضارية والسياسية

لم يقتصر إنتاج د. النجار على حقول الإعجاز، بل امتد ليشمل رؤية حضارية شاملة، تثبت أنه كان مفكراً حضارياً:

1- «رسالتي إلى الأمة»: كتاب ضخم (أكثر من 500 صفحة) قدّم فيه تحليلاً معمقاً لأزمة العالم الإسلامي وجذور التمزق الحضاري، ورسم خريطة واضحة للنهضة تقوم على استعادة التوحيد وبناء القوة العلمية والأخلاقية.

2- «علوم الأرض في الحضارة الإسلامية»: كتاب أعاد الاعتبار لتراث المسلمين في الجيولوجيا وعلوم الكون، مبيّناً فضل العلماء المسلمين في تأسيس مناهج البحث التي أفادت منها الحضارة الغربية.

3- «قضية التخلف العلمي والتقني»: كشف فيه أسباب الهوّة بين الأمة والعصر، مؤكداً أن استعادة النهضة لا تتم إلا بتأصيل المعرفة وربط العلم بالإيمان.

4- كتب أخرى: مثل «الحضارة الإسلامية وأثرها في النهضة العلمية المعاصرة» الذي أبرز دور الإسلام في إخراج أوروبا من عصور الظلام، و«نظرات في أزمة التعليم المعاصرة» الذي دعا فيه لإعادة بناء المنظومة التعليمية على أساس قيمي إسلامي، و«الإسلام والغرب»، و«ماذا بعد ربيع الثورات العربية؟».

خصائص منهجه العلمي والدعوي

تميز منهج د. النجار بالجمع الفريد بين صرامة الباحث وروح الداعية، وانطلق من رؤية تقيم جسوراً متينة بين العلم التجريبي والعقيدة، مؤكداً أن القرآن لا يناقض حقيقة علمية قطعية، وأن «الوحي والعلم آيتان من آيات الله».

واجب الأمة ألا تُفرّط في تراثه بل تجمعه وتحققه وتدقّق روافده وتبني عليه برامج علمية تحفظه وتصون جهده

كان التزامه بالضوابط راسخاً، رافضاً الإفراط الذي يسيء للقرآن، والتفريط الذي ينكر إشاراته الكونية، وفي خطابه، امتاز بالوضوح والبساطة والقوة في آن واحد، فكانت حجته متماسكة وأسلوبه قريباً؛ ما جعله يخاطب المتخصصين والعوام معاً، وتجلى ثباته في الموقف السياسي والدعوي في مواقفه الصادقة من قضايا الأمة، وخاصة فلسطين، ورغم شهرته الواسعة، بقي متواضعاً زاهداً، يرى العلم رسالة لا وسيلة، والدعوة واجباً لا مهنة.

آفاق البحث لطلاب الدراسات العليا

يترك تراث د. النجار أرضاً خصبة للباحثين، لا للإحياء العاطفي، بل للبناء على الأساسات التي أرساها، تبرز الحاجة إلى دراسات معمّقة في ضوابط الإعجاز العلمي التي يمكن أن تشكل تخصصاً مستقلاً، وكذلك بحوث مقارنة بين الإعجاز العلمي والتاريخي والإنبائي لرصد أدوات كل اتجاه، كما أن موسوعاته تفتح الباب لمشروع نقدي علمي يرصد تطور منهجه، ويظل تحقيق تراثه، وجمع محاضراته المنثورة وبرامجه المرئية، مشروعاً علمياً متكاملاً يستحق أن تتبناه المؤسسات.

وداع يليق بمدرسة تمشي على الأرض

يمضي د. زغلول النجار وتبقى سيرته مدرسة متنقلة جمعت بين وهج العلم ونور الوحي وحماسة الرسالة، لقد أعاد لعلم الإعجاز هيبته بوضع ضوابط صارمة، وحمل القرآن للعالم بلغة العلم والدليل، واليوم، نحن لا نودّع شخصاً، بل نودّع ظاهرةً علمية فريدة، ومشروعاً حضارياً متكاملاً، ورجلاً وهب عمره للقرآن، مبيّناً أن الكون كتاب ناطق يهدي كما يهدي الوحي المقروء.

ويبقى واجب الأمة اليوم ألا تُفرّط في هذا التراث؛ بل تجمعه، وتحققه، وتدقّق روافده، وتبني عليه برامج علمية ومؤسسية تحفظ المنهج وتصون الجهد، وتورّث الأجيال القادمة ما أفنى د. زغلول النجار عمره في بنائه.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة