شاهد عيان يهودي على الصهيونية (2)

زكي نجيب محمود

15 سبتمبر 2025

92

كانت تلك المقابلة مع هارمان إحدى الحادثتَين اللتين قال الكاتب في أولِ خطابه إنَّه صادفَهما قُبيل مغادرته نيويورك، وأمَّا الحادثة الثانية فهي أنَّه حضر مع زوجته احتفالًا راقصًا، اكتفَيا فيه بالجلوس والمشاهدة، فشاركَهما على المائدة رجلٌ وزوجته، وسرعان ما دخَلوا معًا في حديث، تبيَّن منه أنَّ هذا الرجل يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية، وأنَّه من خُبراء الشرق الأوسط، ولَمَّا علم أنَّ محدِّثه هو مدير الجمعية اليهودية الأمريكية -التي لا تُناصر الصهيونيةُ وجهةَ نظرها بالنسبة لـ«إسرائيل»- قال له ما معناه: إنَّه لو تُرك لرأيه الحر، لما رأى غيرَ هذا الرأي المعارِضَ للسياسة الصهيونية، وأنَّ الوجود «الإسرائيلي» لا يقوم على أساسٍ عادل، إلَّا إذ بترَت العلاقة بينهما وبين الصهيونية العالمية.

ونقفز في صفحات الكتاب لنصلَ إلى الرسائل المبعوثة من القاهرة، وأهم ما ورد في الرسالة الأولى (تاريخها 14 من أبريل 1955 م)، لقاء بين الكاتب وحاخام اليهود بالقاهرة، حايم ناحوم، «وهو شيخ جليل في الثالثة والثمانين من عمره، وكان قبل هذا حاخامَ اليهود في الإمبراطورية التركية، وقد لبث في مصر ثلاثين عامًا، وهو اليوم كفيفُ البصر، لكنَّه من نفاذ الرأي ويقظة الوعي في درجةٍ لا تستطيع أن تتخيل درجةً أبعد منها؛ ولأنَّني أعلمُ التضليل الذي يُذاع في أمريكا عن اليهود في البلاد العربية، فإنَّني أؤكد هنا أنَّ الاجتماع بالحاخام كان في منزله، ولم يحضره أحدٌ من رجال الحكومة.. وإنَّه لمن باب التَّفْكهة أن أذكر -في مواجهة التفرقة الباطلة التي تُذيعها الدعاية الصهيونية للتمييز بين العربي واليهودي- أنَّ الحاخام يُلقب ﺑ «الأفندي» عند المصريين لولا أنَّ هذا اللقب لم يعد يُستعمل بصفةٍ عامة في كل أنحاء البلاد بعد الثورة، على أنِّي أريدكما أن تعلما أنَّ اللقب كان يُراد به الاحترام؛ ولذلك لم تكن دهشتي عظيمةً حين ذهبنا إلى شقة الحاخام ناحوم، لأراه هناك جالسًا وعلى رأسه الطربوش العربي، وتساءلتُ ماذا يا ترى يكون الرَّجْع إذا ما ظهر الرجل في حفلة يُقيمها الصهاينة في نيويورك؟

تحدثتُ مع الرجل ساعتين، وطرَقْنا بالحديث موضوعاتٍ كثيرة، فوجدتُه عدوًّا للصهيونية، لا يرغب في شيء رغبتَه في التنصُّل منها، وقد قصَّ عليَّ قصةً منذ كان في الماضي مُقيمًا في تركيا، كيف جاء عندئذٍ وفدٌ صِهيوني يطلب منه التوسُّطَ لدى السلطان ليسمح للصهيونيين بشراء الأرضي في فلسطين، فأفهمَهم أنَّ مثل هذه الوساطة تَسُرُّه لو كان يعلم أنَّ الأراضيَ تُباع لليهود من حيث هم «أفراد» يعتزمون أن يكونوا مواطنين في فلسطين، لكنَّه لن يتوسَّط في ذلك ما دام يعلم أنَّ الأراضيَ إنَّما تُشترى تحقيقًا لخطة «جماعية» يُراد بها خدمة الحركة الصهيونية».

ومضى الكاتب في رسالته ليقول: إنَّه لا بُدَّ لمن يريد أن يرى الحقيقة بعينيه، أن يحضر إلى هنا ليرى كيف تُمارَس العقيدة اليهودية بكل شعائرها في حرية تامة، وكيف يُشارك المواطنون اليهودُ سائرَ أبناء وطنهم في نشاط الثورة؛ ثم يؤكد الكاتب — وكأنَّما هو في عجب مما يرى — أنْ ليس في مصر علامةٌ واحدة تدل على اضطهاد السامية (وفاتَه أن يعلم أنَّ العرب هم أنفسهم ساميُّون)، وقد أثبتَ الكاتب في رسالته هذه ما أنبأه به الحاخام ناحوم، من أنَّه في الأسبوع الماضي، دُعِيَ مع قادة المسلمين والمسيحيين، للمشاركة في الاحتفال برفع العلم المصري لأول مرة على مدينة السويس؛ فأين هذه المساواة في المواطنة برغم اختلاف الديانات؟ أين هي مما يُذيعه دعاة الصهيونية في أمريكا؟

وفي رسالةٍ تالية أرسلها من القاهرة (بتاريخ 22 من أبريل 1955 م) يؤكد الكاتب ما ذكره في رسالته السابقة، وما يغيب عن أذهان الأمريكيين بفعل ضلالات الدعاة، من أنَّ اليهود هنا هم عربٌ من العرب، يتكلمون العربية، ويرتدون ما يرتديه العرب، ويبيعون للعرب، ويشترون من العرب؛ ويقول إنَّه لَتأخذه الدهشة الممزوجة بالعار حين يتذكر كيف يجلس الأمريكيون في جهلهم، بل كيف يُبْدون استحسانهم أحيانًا، كلما وقف بينهم سفراء إسرائيل، ووزراء إسرائيل، يخطبون فيهم لِجَمع التبرعات، مصورين البلاد العربية في حديثهم في صورة بشعة، ما أبعدها عن الحقيقة كما تراها عين الرائي! أفلا يجدر بهؤلاء المنصِتين هنا في إعجابٍ أن يجيئوا إلى هنا لِيَروا كيف يعيش خمسون ألفًا من اليهود، مواطنين عاملين أحرارًا، شارَكوا حياة بلادهم في ماضيها، وفي حاضرها، وفي رسم مصيرها؟

واتَّصل الكاتب بصحفي يهودي في مصر، وطلب منه أن يكتب له تقريرًا عن حالة اليهود في هذه البلاد؛ فكتب الصحفي يقول:

يتمتع اليهود المصريون والأجانبُ في مصر، بحريةٍ كاملة في عقيدتهم، وفي التعبير عن أنفسِهم وفي مُزاولة أعمالهم، وقد شارك اليهودُ في مصر — قبل حملة فلسطين وبعدها — في اقتصاد مصر وتجارتها إلى حدٍّ بعيد؛ وحتى حين نشبت الحرب في فلسطين، لبث اليهود المصريون يتمتعون بحقوقهم كاملة، ويؤدُّون واجباتهم كاملة، من حيث هم مواطنون مصريون، ولم يشعر اليهود المصريون قط بأيِّ اضطهادٍ أو تمييز عنصري؛ فقد كان يُمثلهم نوابٌ في البرلمان المصري، وحدث في أيام الحرب الفلسطينية أنْ كان عنهم نائبان في البرلمان، هما أصلان قطاوي، في مجلس الشيوخ، ورينيه قطاوي، في مجلس النواب.

وبعد ثورة 23 من يوليو 1952 م، ازداد شعور اليهود باحترام حكومة الثورة لهم؛ إذ إنَّ هذه الحكومة لم تدَعْ فرصة واحدة تمرُّ — دينيةً كانت أو اجتماعية — دون أن تنتهزها لتُبين لليهود المصريين أنْ ليس عندها قط ما تُميز به بين مُواطنيها من المسلمين والمسيحيين عن مواطنيها من اليهود، فرئيس الوزراء يُشارك بنفسه في أعياد اليهود، ويزور معابدهم؛ ولمَّا شكَّلَت حكومة الثورة في مصر لجنةً خاصة لوضع دستور جديد للبلاد، عينت فيها عضوًا يُمثل اليهود، هو الأستاذ زكي العريبي، المحامي المصري المعروف؛ وإنَّك لتجد في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من البلاد المهمة في مصر، مدارسَ يهوديةً يُديرها يهود، حيث يستطيع التلاميذ اليهود أن يتعلموا العبرية بلا تدخلٍ من أي موظف حكومي، بأيَّة صورة من الصور.

وبرغم حالة التوتر القائمة بين الدول العربية عامة، ومصر خاصة، وبين إسرائيل؛ فإنَّ اليهود المصريين يقومون بدورهم في حياةِ مصر الاقتصادية والتجارية، ولهم رءوس أموال ضخمة مستثمَرة في المصانع والشركات، وفي مؤسسات الاستيراد والتصدير، وفي البنوك.

نعم، إنَّ عددًا من فقراء اليهود، تحت تأثير الدعاية الصهيونية، قد هاجروا من مصر إلى إسرائيل، لكن هذا العدد أخذ يتناقصُ بشكل ملحوظٍ منذ قامت الثورة، ويرجع التناقص أساسًا إلى عاملَين: أولهما التمييز في إسرائيل بين اليهود العرب واليهود الوافدين من أوروبا؛ فقد جاءت الأنباء ممَّن هاجروا إلى إسرائيل بأنَّ اليهود العرب هناك يُكَلَّفون بأداء أحطِّ الأعمال شأنًا، كالعمل في المجاري، برغم أنَّهم قد يكونون ممن ظفروا بقسطٍ عالٍ من التعليم، على حينِ أنَّ اليهود الوافدين من أوروبا يُعامَلون كما لو كانوا سادةً، وكما لو كان اليهود العرب عبيدًا لهم وخدمًا؛ وأمَّا العامل الثاني، فهو ما يشعر به اليهود المصريون -في حكومة الثورة- بمساواةٍ تامة بينهم وسائر المواطنين من مسلمين ومسيحيين، فهم يختارون لأنفسهم من ضُروب الأعمال ما يشاءون، على حينِ أنَّ زملاءهم في إسرائيل يُجبرون على الأعمال التي تختارها لهم السلطات.

على أنَّ الدعاية الصهيونية -برغم هذه الحقائق- ما تزال تجد سبيلها إلى نفوس عددٍ من اليهود الفقراء، الذين قد يتوهمون أنَّهم مُصادِفون ثراءً في إسرائيل، فيُهاجرون بمعونةٍ تأتيهم من عملاء الصِّهيونية، فتُرسل لهم تذاكر السفر مجانًا إلى مرسيليا، كما ترسل لهم إعانات مالية لإعداد أنفسهم بالثياب وغيرها من لوازم السفر. وإنَّ الحكومة هنا لتعلم مقصدَ المهاجرين، ومع ذلك فهي لا تقف في سبيل هجرتهم.

ويقول هذا الصحفي اليهودي المصري في تقرير: إنَّني لأرى -باعتباري مواطنًا مصريًّا يعتنقُ اليهودية دينًا- أنَّ الدول العُظمى قد اقترفَت أفحش خطيئة ضد يهود العالم، بأن أقامت دولة «إسرائيل»؛ لأنَّها بذلك قد عزلَت اليهود في معظم أرجاء الدنيا، إذ نُظر إليهم على أنَّهم مُوالون لهذه الدولة الوليدة، وأنَّهم ليسوا على ولاءٍ للبلاد التي يعيشون فيها، وحُسبوا كما لو كانوا مواطنين إسرائيليين يُقيمون خارجَ بلادهم. وفي الوقت الذي عارضَت فيه تلك الدول العُظمى بكل قوتها، النازية والفاشية، واتهمَتهما باضطهاد اليهود في ألمانيا، وفي الوقت الذي لم تدَّخر فيه تلك الدولُ العظمى جهدًا في إيواء اللاجئين اليهود الذين طُردوا من ألمانيا؛ فهي لم تصنع -حتى الآن- شيئًا قطُّ لإعادة اللاجئين العرب إلى ديارهم في فلسطين، أو لتعويضهم، وترَكَتهم خلال السنوات السبع الماضية (من ١٩٤٨م إلى ١٩٥٥م، وهي تاريخ كتابة هذا التقرير)، مُشرَّدين في الصحراء، بلا مأوى. وإنَّنا نحن اليهودَ المصريين لَنشعر بالمفارقة حين نرى أنفسنا في مأمنٍ من وطننا، ثم نرى هؤلاء اللاجئين يتجرَّعون العيش المر في حياة متوترة قلقة.

 

اقرأ أيضاً:

شاهد عيان يهودي على الصهيونية




_______________________

المصدر: من كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر».





تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة