عند النطاح يُغلَب الكَبْش الأجم!

د. محمد السبأ

30 سبتمبر 2025

72

مَثَلٌ عربي يُضرب للرجل يمارس الْأُمُور بِغَيْر عُدَّةٍ فيخيب، ويُضرَب لمن غَلَبه صاحبه بما أعدَّ له(1)، والأجَمُّ من البهائم هو الَّذِي لَا قرن لَهُ(2)، ومن القصور الذي لا شرَف له، ومن الرجال الذي لا رُمح معه(3)، ويأتي في سياق الاستعداد للنوائب قبل حلولها(4)، وفي المثل الآخر المماثل: عند ‌النّطاح تَغلِبُ القرناءُ»(5)، فعند أي مواجهة أو صراع؛ يكون المنتصِر هو الأقوى والأكثر استعداداً، حتى لو كان الآخَر أكبر أو أضخم أو أكثر مالاً، وإنما الإعداد والاستعداد والذكاء والتخطيط واستخدام الممكِّنات.

مفهوم القوة والضعف في الشريعة الإسلامية

وردَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ»(6)، وهذا ينطبق على الفرد والمجموعة، ودور الأمة الإسلامية دور إمامة وزعامة، وقد أمدَّها الإسلام بالعناصر التي تؤهلها لهذا المنصب العظيم، ومن هذه العناصر تتألف القوة الحقيقية.

وتتناول تلك القوة جوانب الحياة جميعاً؛ فهي تتمثَّل في: الإيمان بالله الذي يحرِّر الضمير والوجدان، والاعتصام بالحق، ومعرفة الضعف النفسي والتطهُّر منه، والعلم المادي اللازم، والثروة المالية والاقتصادية والانتفاع بها وحسن التدبير فيها، وتعمير الأرض، وتحقيق العدل، وإقامة المجتمع على أساس من الحرية والعدالة والحكم الصالح، والسلام القائم على احترام الإنسان وكفالة حقوقه، واحترام العهود والمواثيق.

فهي إذاً شاملة لقوة العقيدة، وقوة الخُلق، وقوة العلم، وقوة المال، وقوة التماسك الاجتماعي، وقوة التنظيم السلمي، وقوة الاستعداد الحربي(7).

وبذلك بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأقام بها المجتمع المسلم، وبذلك وعد الله الأمة بالخيرية؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ،) (آل عمران 110)، كما وعدهم بالاستخلاف؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور 55).

الوحدة وأهميتها في مواجهة التحديات

الوحدة بين المسلمين من أهم ما حثَّ عليه الدين الإسلامي، ففي أكثر من آية وحديث نبوي نجد ما يدل على أهمية الوحدة التي تأتي في سُلَّم الأولويات بعد التوحيد، ولهذا بدأ بهما النبي صلى الله عليه وسلم أوَّل وصوله المدينة وعلى الفور؛ بناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار (الوحدة والتوحيد).

وقد أمرنا الله بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ) (آل عمران: 103)، وحذَّرنا من النزاع والاختلاف؛ (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).

والحياة شاهدة بمختلف مواقفها أنه ما اتحدت أمة إلا غَلَبَت وانتصرت، وما تفرَّقت أمة إلا خسرت وضاعت، وهي سُنة من السنن الكونية، بل نجدها تتجلَّى حتى في عالَم الحيوان! فكيف بالإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض؟

وبالتالي تسعى كل مجموعة لتكون هي الأعظم قوة والأوْلى قيادة وخلافة، وهذا الأساس (الوحدة) من أهم الأُسس التي تُظهِر قوة الأمة، وتجعل العدو يحسب لها ألف حساب قبل أن يفكِّر بأذاها أو ضرِّها، أما إذا فعل فسيجد عندها أنها ذات قرنٍ غالبٍ حين النطاح.

الإعداد والاستعداد

يأتي الإعداد المستمر والاستعداد الدائم ضمن عناصر القوة المطلوبة، فقد أمر الله المسلمين بقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وذلك حتى يرتدع العدو ويرهب جانب الأمة فلا يتعدَّى على فردٍ منها أو مصلحةٍ من مصالحها، وحتى تأمن في ديارها وأرضها وحقها، ولا يمكن أن تتأتَّى تلك الرهبة في صدور الأعداء إلا برؤيتهم قوة المسلمين، وإدراكهم مدى استعدادهم ويقظتهم الدائمة التي لا تترك لهم ثغرة أو فجوة، بل المطلوب هو الاستعداد بأعلى المعايير، والسعي لأفضل حالٍ من الجاهزية، إذْ لا مجال للضعيف أو المتراخي أو البيْن بيْن!

والإرهاب الشرعي على ضوء هذه الآية الكريمة هو أحد الأساسيات الفطرية للتعامل مع العالم، فأمم العالم جميعًا تعدُّ ما تستطيع من قوة كي تُدخِل الرهبة في قلوب أعدائها، وهي تستعرض قوتها في المناورات كي يعرف خصومها درجة مناعتها فيحترمونها ولا يعادونها، وهذا أمر مشروع وحق معمول لدى الأمم ومسموح لدى القوانين كلها منذ قديم الزمان(8).

أخطار الغفلة والتهاون

ضعف الاستعداد في مواجهة التحديات من أسبابه ضعف الإدراك والتخطيط، وكذلك الغفلة والتهاون المؤدي إلى الضياع والخسران، وحتى القوة الظاهرة وحدها لا تكفي إذا لم يصاحبها انتباه دائم واستعداد مستمر وتخطيط دقيق، وتعزيز للقدرات الذهنية والإستراتيجية، والحذر من المكائد والدسائس والمحاولات الحثيثة للنفاذ في جسد الأمة.

والله عز وجل أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ولم يذكر نوعاً دون نوع ولا حالاً دون حال، وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع والعدو يَقلُّ ويكثر ويضعف ويقوى، فلهذا ينبغي على قادة المسلمين وأعيانهم ومفكريهم إعداد ما يستطيعون من قوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك(9).

والله جل وعلا قد حذَّر المسلمين وحثَّ هم على أخذ الحيطة والحذر من عدوهم حتى في وقت الصلاة المفروضة التي لا تسقط عنهم بأي حال؛ (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (النساء: 102).

الدين عند الله الإسلام، وهو الذي ارتضاه لهذه الأمة وبعث به خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وبذلك فهو المتكفِّل بحفظ منهجها ودستورها.

والناظر لحال الأمة اليوم يجد في سوادِها الأعظم توْقاً للدين وشوقاً للاجتماع واستعداداً للأُلفة والالتحام، ولولا تدخُّلات المبطلين والمستعمرين وسعيهم الدؤوب بكل قوة لتفريق المسلمين، ثم لولا انخداع طوائف من المحسوبين وركون طوائف ورضا طوائف أخرى؛ لكان لذلك السوَاد سؤدد وللوحدة عوْدة، ولكن سيبقى الأمل أن الله غالِب، والدين متين، والعاقبة للمتقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين.




_______________

(1) مجمع الأمثال للميداني.

(2) المرجع السابق.

(3) جمهرة الأمثال، أبو هلال العسكري.

(4) المستقصى في أمثال العرب للزمخشري.

(5) جمهرة رسائل العرب في عصور العربية، أحمد زكي صفوت.

(6) صحيح مسلم (2664).

(7) انظر: عناصر القوة في الإٍسلام، السيد سابق.

(8) انظر: موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام، مجموعة باحثين.

(9) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة