إعادة تدوير ركام غزة في رصف الطرق وإعادة الإعمار..

غزة من الدمار إلى البناء

د. هبة جمال جاد

06 نوفمبر 2025

69

إن الكميات الهائلة من الركام الناتج عن الدمار في غزة تمثل تحديًا بيئيًا وإنسانيًا عظيمًا، لكنها في الوقت ذاته تتحول إلى فرصة لإعادة البناء بأساليب مبتكرة تثبت قدرة الإنسان على الإبداع من بين الأنقاض، فمن بين ركام المنازل المدمرة والمنشآت المحطمة، تفتقت الأذهان عن تحويل هذه المخلفات إلى مواد بناء فعالة تسهم في رصف الطرق وإعادة الإعمار؛ ما يمثل بداية الطريق نحو التعافي واستعادة الحياة.

لقد خلفت الحرب على غزة دمارًا هائلاً لم تشهد له المنطقة مثيلاً من قبل، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى تضرر عدد كبير من المباني في القطاع، فقد حدد برنامج الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات) التابع لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية ما مجموعه 192812 مبنى أصابتها الأضرار؛ 78% من إجمالي المباني في قطاع غزة (Office for the Coordination of Humanitarian Affairs, 2025)(1)، هذا الدمار الشامل أدى إلى توليد كمية ضخمة من الركام وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن الكمية قد تكون أكبر من ذلك، هذه الكميات المهولة تجعل من عملية الإزالة وإعادة التدوير واحدة من أكبر التحديات الهندسية واللوجستية في العصر الحديث، وتتطلب جهودًا دولية استثنائية وابتكارات غير مسبوقة.

وفي مواجهة هذا التحدي، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مشروعاً بعنوان «Roads and Public Buildings Debris Recycling initiative»، (2025 UNDP)(2)، هذا المشروع يغطي عملية إزالة الركام وتحويله إلى مواد بناء في قطاع غزة.

أما عن التطبيقات العملية لهذه المواد المعاد تدويرها، فتتنوع بين استخدامها في رصف الطرق وتمهيدها لفتحها أمام حركة المرور، وإنشاء مرافق مؤقتة توفر المأوى للنازحين، مع إنتاج مواد بناء صديقة للبيئة كالطوب الأسمنتي والخرسانة المعاد تدويرها، هذه التطبيقات لا تقتصر فقط على توفير المواد اللازمة لإعادة الإعمار، بل تمثل أيضًا نموذجًا فريدًا للاقتصاد الدائري الذي يحول النفايات إلى موارد ذات قيمة؛ ما يخفف من الأعباء البيئية ويوفر بدائل مستدامة لمواد البناء التقليدية.

غير أن طريق التعافي هذا لا يخلو من التحديات الجسيمة، فأول هذه التحديات يتمثل في الأخطار الأمنية، حيث يحتوي الركام على ذخائر غير منفجرة، بالإضافة إلى بقايا بشرية عالقة بين الأنقاض، فيشكل ذلك تلوثًا بيئيًا خطيرًا، فالركام يحتوي على مواد سامة كالأسبستوس -وهو مادة ليفية كانت تستخدم في السابق في مواد البناء والعوازل الحرارية لخصائصها المقاومة للحرارة والاحتراق، إلا أنها تعد من المواد المسرطنة والخطيرة على الصحة العامة- إلى جانب المخلفات الصناعية والمعادن الثقيلة التي تشكل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة والبيئة.

ويضاف إلى هذه التحديات النقص الحاد في المعدات الثقيلة اللازمة للعمليات، بسبب منع دخول العديد من هذه المعدات للقطاع، إلى جانب القيود السياسية واللوجستية المستمرة التي تعيق دخول مواد البناء والمعدات الأساسية إلى القطاع.

وفي مواجهة هذه التحديات، برزت عدة مقترحات وحلول مبتكرة، منها الاستفادة من التجربة اليابانية في استخدام الركام المعاد تدويره في طبقات قواعد الطرق، حيث طورت اليابان تقنيات ومعايير لإنتاج ركام معاد تدويره ذي جودة عالية يستخدم عمليًا في إنشاء أساسات الطرق والبنية التحتية، ما يوفر حلاً عمليًا للتخلص من الركام وتحويله إلى موارد للبنية التحتية (Japan Concrete Institute 2005)(3).

من المتوقع أن تمتد عملية إعادة الإعمار الشاملة عقودًا من الزمن، نظرًا لحجم الدمار الكبير والحاجة إلى استثمارات هائلة بمليارات الدولارات، فيما قد تتطلب إزالة الركام وحدها مبالغ ضخمة، ولا يتوقف النجاح في هذه المهمة على توافر الأموال والمعدات فحسب، بل يحتاج أيضًا إلى بيئة سياسية مستقرة تضمن تدفق المواد ومنع تكرار الدمار، بالإضافة إلى إرادة دولية جادة لتحقيق النهضة المبتغاة.

وعليه، فيمكن تسليط الضوء على الوقف المطلق كأداة مالية شرعية تتيح استدامة تدفق التمويل المخصص لإعادة الإعمار، بما يضمن ديمومة الجهود التنموية بعيدًا عن تقلبات الدعم الخارجي.

وتمثل عملية إعادة تدوير ركام غزة نموذجًا ملهمًا للصمود والإبداع في مواجهة الدمار، إذ تنبع من بين الأنقاض مبادرات رائدة تسعى لتحويل الدمار إلى بناء، واليأس إلى أمل متجدد، وعلى الرغم مما يواجهه هذا المسار من تحديات هائلة، فإن الجهود القائمة تشكل نقطة انطلاق حقيقية نحو واحدة من أضخم عمليات إعادة الإعمار في العصر الحديث، حيث يغدو الركام رمزًا للقدرة على النهوض من جديد، وتمهيد الطريق ليس فقط لإعادة فتح الشوارع، بل لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وعدلًا لأبناء غزة.

إن هذه التجربة الإنسانية الاستثنائية تؤكد أن الإرادة البشرية قادرة على تحويل الكارثة إلى فرصة، والمأساة إلى إنجاز، في رسالة خالدة للأجيال القادمة بأن الحياة والإعمار ينتصران دائمًا على الدمار واليأس، وكما أعاد الوقف عبر التاريخ بناء المساجد والمدارس، يمكن أن يكون اليوم أداة لإعمار الأرض وبناء المستقبل، مصداقًا لقول الله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61).



إعمار غزة.. الصمود الأكبر | عدد نوفمبر مجلة المجتمع
إعمار غزة.. الصمود الأكبر | عدد نوفمبر مجلة المجتمع
إعمار غزة.. الصمود الأكبر | عدد نوفمبر مجلة المجتمع
mugtama.com
×



______________________

(1) United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs. (2025, August 6). Humanitarian situation update no. 311: Gaza Strip (Report). https://www.ochaopt.org/ar/content/humanitarian-situation-update-311-gaza-strip 

(2) United Nations Development Programme. (2025, January 22). Roads and Public Buildings Debris Recycling initiative (UNDP-PAL-00311): ITB – Invitation to bid. UNDP Procurement Notices.  https://procurement-notices.undp.org/view_negotiation.cfm?nego_id=29728

(3) Shima, H., Tateyashiki, H., Matsuhashi, R., & Yoshida, Y. (2005). An advanced concrete recycling technology and its applicability assessment through input-output analysis. Journal of Advanced Concrete Technology, 3(1), 53–67. https://doi.org/10.3151/jact.3.53

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة