ثمَّ كذَّبوك يا محمد ﷺ (13)
فلْيستحِ الإنسانُ من الحيوان!

الأوقات ظروف للأحداث، والوقت يسعد أو
يشقى، يشرف أو يُهان بالحدث الذي يقع فيه، فأسعد وقتك وشرَّفه من الله وبالله، وهل
يسعد الوقت أو يشْرُف بأكثر من مساعدة الإنسان؟ وهل تتوجب المساعدة الآن لأحد أكثر
من أهل غزة؟ ألست مسلماً؟ ألست تتبع محمدًا؟!
تعال انظر كيف رحم صلى الله عليه وسلم
الحيوان، بعد أن أعلمك أن رحمة الإنسان أوجب من رحمة الحيوان.
في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاح
عطر الرحمة فوق أديم الأرض وأجواز الفضاء شَذِيّ، وليتأمل المشهد عقل الفاقِه،
وينصت إليه قلب التقيّ.
الحبيب صلى الله عليه وسلم يمتطي بغلته
الشهباء(1) وقد أردف خلفه عبدالله بن جعفر رضي الله عنه، وتمهد الأقدار
للأقدار فيتوقفان في الطريق عند حائط(2) لرجل أنصاريّ، ويدخل صلى الله
عليه وسلم الحائط، فإذا به بعير يستسقي(3) عليه الأنصاري، وما أن أبصر
البعير النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسرع يشكو إليه بثه(4) وحزنه!
وتهتف أنت في كلماتي: سبحان الله! وكيف
حمل البعير إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكواه؟!
وتهمس كلماتي إليك: نظر البعير إلى النبي
صلى الله عليه وسلم مطرقًا في توسل، ثم أخذته نوبة من الانفعال، فضج وصاح ومدَّ
صوته حزنًا، بينما جعلت عيناه تذرف دمعها وتصبه، بيد أن الأسى والألم قد ألمَّا به
بقسوة وتركاه يَشْقَى من حزن وانكسار، ففزع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي
ولكأن لسان حاله يردد: دبر لي أمري، وصرِّف لي أحوالي، لغة حزنه أبلغ من الكلمات،
لغة حزنه يفهمها النبي صلى الله عليه وسلم جيدًا.
وتحد عيناك بصرها للكلمات سائلة: لم
تُجِب؟ كيف فهم صلى الله عليه وسلم شكوى البعير؟!
فتدركك الكلمات: إن الله خرق للنبي صلى
الله عليه وسلم القوانين الطبيعية للحياة الدنيا، والذي خلق البعير قادر على أن
يُعلم رسوله بكل أخباره، وإذا كان الله قد خصَّ النبي سليمان عليه السلام بذلك،
فإنه خصَّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزة مع الحيوان، ليكتمل أداء مهمته
للعالمين (مَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)؛ أي لكل أجناس الكون.
ومن هذه القدرة الإلهية قدَّر الله
للبعير أن يفطن للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قدَّر للنبي صلى الله عليه وسلم
أن يفطن لمأساة البعير، وينبغي ألَّا نُقيس ذلك بعقولنا البشرية المحدودة
والقاصرة، فإذا قيست بعقولنا فقد خرجت من كونها معجزة، ومن كونها دليلًا من كثير
على صدقه صلى الله عليه وسلم تثبيتًا للمؤمنين وبينة للكافرين، وإذا أخبرنا النبي
صلى الله عليه وسلم بأنه سمع شكوى البعير وفهمها فقد سمعها وفهمها، لأنه لا ينطق
عن الهوى، المهم هنا هو التيقن من الخبر وإزالة الشك عنَّا وعنه بنسبته إليه، ونحن
الآن نستروح مع أمر أراده الله و(إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82).
وبعدما حرص البعير على شكوى الإنسان إلى
من هو أقدر على احتمال عبء الإنسان والحيوان، نزل صلى الله عليه وسلم وراح يخطو
إليه، وصافحت عيناه البعير بشفقة وحنان، وقد سمع صوت آلامه الذي يدوي داخله ويتبدى
في عبراته، وحنينه(5) الذي يتزايد كلما دنا منه صلى الله عليه وسلم
لكأنه لا يلمح الرحمة إلَّا فيه، ونظر صلى الله عليه وسلم في عيني البعير وكأنه
ينظر من نافذة مفتوحة إلى مأساته، وأعلمه الله بالمأساة المظلمة الرابضة خلف بُكْمهِ(6)
وكأنه يتكلم بلسان عربي مبين، فأخذ يمسح بيده الشريفة خلف أُذنِ البعير ويمر بها
على ظهره.
وبينما كان عبدالله بن جعفر يتابع المشهد
ساهمًا، بد الانبهار في عينيه وهو يدقق النظر ويشهد العجب، ويرى معنى لا تصوره
الكلمات، رأى البعير يسكن فجأة لكأنما رُفِعَ من فوقه ثِقْلٌ كاد يُنقض ظهره،
ونُفِيَ من نفسه ألم لا قِبَل له باحتماله، نظر عبدالله في عيني البعير فلم يجد
تعبيرات الأسى التي كانت تتشبث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وجد تعبيرات
أُخرى تناقضها تمامًا، وأحس بنفس البعير التي ألفت في لمس النبي صلى الله عليه
وسلم راحتها وأمنها، وسال ألمه وحزنه الشديد في عبراته خارج نفسه.
ولفرط رحمته صلى الله عليه وسلم كان
وقتئذ أحرص ما يكون على راحة البعير، واسْتِدْلال جبره لنفس البعير وتدبير أمره،
سؤاله غضبان أَسِفاً: «من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟»، فجاء فتى من
الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، ولأن الحيوان مخلوق لله، ووجب على الإنسان أن
يَتَوقى غضب الله فيه.
راح النبي صلى الله عليه وسلم يبين هذا
المعنى للأنصاري، وهو يسأل عاتبًا: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك
إياها؟»، وما كاد الأنصاري يتساءل عن السبب حتى وضح صلى الله عليه وسلم: «فإنَّه
شكا إليَّ أنَّك تُجيعُهُ وتُدئبُهُ»(7).
وكان الأنصاري يديم إجهاد البعير في
العمل، ولا يوفيه حقه من الطعام، فشعر بالخجل يجثم على أنفاسه، وأقر بِعَقْدِ عزمه
على الإحسان إلى بعيره وقضاء حقه عليه كأكمل ما تُقضى الحقوق، وأدائه كأجمل ما
يكون الأداء، فحسبه ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن كان لكل جميلٍ عبيره، ولكل طيبٍ
شذاه فقد حلقَ عبير المعجزة وشذاها فوق أمواج قلق المشركين واليهود، ولكنهم
كذَّبوك يا محمد!
يا كل مسلم على ظهر المعمورة، أما لك في
سيرته الشريفة قدوة؟! أما علمت كيف ترحم الحيوان؟! أما علمت أن الله فضل الإنسان
على الحيوان؟! إجابتك لا ريب: نعم.
فلماذا تترك أخاك الإنسان عجوزًا وطفلًا
وامرأة على أرض غزة يموت جوعًا وحرقًا تحت أقدام الأحقاد الباطشة لأخس جنس بشري؟!
ولمَ لا؟ أليسوا أحفاد القردة والخنازير؟!
وتتوالى في وجهي الصرخات: لا، هم جنس راق
ولهم حقوقهم.
فأسأل بعدما أشيح بوجهي ويدي: فلماذا
يسرق الجنس الراقي أرض الغير بخيراتها، ويقتل أصحابها؟! وهل يسرق الأرض ويقتل
أصحابها غير اللصوص المحتلين، والقتلة المختلين؟!
أيها الإنسان، أَطِل التأمل في الخبر
فإنه بحق معجزة، ولك فيه عبرة واعتبار، فالشاكي حيوان والمشكو إنسان، فابذل قصاراك(8)
في الرفق بالحيوان، فلئن فَزَعَ البعير إلى شخصه الشريف ووجد عنده ما ينشده، فافزع
إلى سُنته الشريفة وسوف تجد ما تتغياه(9)، فالنتيجة واحدة حتى لو اختلف
الشاكي، ولحق الرسول صلى الله عليه وسلم بربه، وتغيرت البيئة وتبدل الزمن.
أيها الإنسان، إذا أُخرست ألسنة البهائم،
فإن مشاعرها تتحدث، وما كانت قط خرساء، والحيوان مخلوق لأجلك بارٌّ بعملك وأنت لا
تملكه، فالملك لله الذي تفضل عليك وملكك إياه؛ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا
عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس: 71).
أيها الإنسان، ليس لك على الحيوان من
سبيل فاتقِ الله الذي أمدك به؛ (وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ {132} أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) (الشعراء)،
اتقِ الله الذي سخره لك: (وَذَلَّلْنَاهَا
لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) (يس: 72)، وإلا
فلتذهب وتسخر لك ذبابة أو بعوضة، فإذا علمت بعجزك فاتقِ الله الذي سخر لك الحيوان،
وإن كثيره ليفوقك قوة وضخامة، وما ذلك إلا رحمة بك؛ (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ
بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (النحل:
7).
أيها الإنسان، حقًا إن الله قد فضلك في
الخلق على الحيوان، ولكن لتعلم أنك ليس لك عليه فضل، فإذا قلت: إني أُطعمه، نقول:
إنك لا تستطيع إطعام نفسك، ولكن الله يطعمك وإياه؛ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى
الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ
وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) (السجدة: 27)، ولئن تركته دون طعام فإن
الله سيرزقه كما يرزق النملة في الشتاء، والدودة في بطن الصخرة الصماء؛ (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ
إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ
فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6).
فإذا علمت أنه ليس لك على الحيوان من فضل
فبُرغْمك(11) هو يعطيك المطعم والمشرب من لحومه وألبانه، ويعطيك الملبس
والدفء من أصوافه وأوباره، وقد تعددت الصناعات التي تمدك بما ينفعك من جلوده
وعظامه؛ (وَالأَنْعَامَ
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل: 5)،
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {21} وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) (المؤمنون).
أيها الإنسان، إن الله لم يخلق الحيوان
لتبسط عليه نفوذك وسلطتك، وتعمل على قهره والاستعلاء عليه، وإحراز الغايات به،
وإشباع الشهوات منه فحسب، وإنما خلقه لنفعك وخيرك، فأَدِم الشكر لله، ولتكن على
يقين بأن الله سوف يشكر لك، واستحِ من الحيوان ريثما يأتي عليك يوم لا تحتاج إليه
فيه، وما أحسب هذا اليوم سوف يأتي.
______________________
(1) البيضاء.
(2) بستان.
(3) يسقي عليه زرعه.
(4) البث: أشد الحزن الذي لا يصبر عليه
صاحبه فيُحدِّث به وينشره.
(5) مدَّ صوته ألمًا وتوجعًا.
(6) عجزه عن الكلام، والأبكم: الأخرس.
(7) حديث صحيح: أخرجه أحم (1745)، وصححه
الألباني في صحيح أبي داود (2549).
(8) أقصى جهدك.
(9) تجعله غاية.
(10) اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها.
(11) رغمًا عنك أردت أو لم تُرد.