قراءة الغزالي في فضيحة «إبستاين»

الأسرة حصن، والقلب حصن آخر، حينما يتآكل الحصن الثاني بفعل شهوة أو غواية، يصبح الأول عرضة للسقوط، هذا هو الدرس القاسي الذي تُلقيه على رؤوسنا «تسريبات إبستاين» الأخيرة؛ تلك الفضيحة العالمية التي كشفت عن شبكة من الفساد الأخلاقي والجنسي المتورط فيها نخبة من الأثرياء وذوي النفوذ.

إنها ليست مجرد أخبار فضائحية عابرة تُنشر في صحف «التابلويد» الصفراء، بل هي زلزال أخلاقي يضرب في صميم مفهوم السلطة والنزاهة، ويضع أمامنا سؤالًا وجوديًا: كيف يمكن للخطيئة المكتومة أن تتحول إلى هزيمة ودمار شامل، ليس فقط للمرتكب، بل للمجتمع كله؟ ولماذا كانت الشهوة المفتاح لهذا الانهيار؟

البعد الأول: الشهوة كمدخل شيطاني.. مقاربة الغزالي:

إن أخطر ما كشفته هذه التسريبات الطبيعة الممنهجة للخطيئة؛ فجزيرة إبستاين لم تكن مصادفة، بل كانت بؤرة منظمة لإشباع الشهوات والاعتداء على البراءة، وهنا لا نجد تحليلاً أعمق من ذلك الذي قدمه حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في درته الخالدة «إحياء علوم الدين».

يشرح الغزالي في فصوله عن عجائب القلب ومداخله، أن الشهوة أحد أكبر المداخل التي يتسلل منها الشيطان إلى حصن القلب المنيع، إنها ليست مجرد رغبة، بل هي قوة عمياء تستطيع أن تُعمي بصيرة صاحبها وتجعله يبرر أقبح الأفعال.

وهنا نستحضر التحذير الإلهي الصارم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6)، هذا التوجيه ليس مجرد إخبار، بل هو أمر باتخاذ موقف يقظ تجاه كل إغراء شيطاني.

إن ما يغريه الشيطان من شهوات محرمة -وإن بدا في اللحظة الراهنة ممتعاً وأدَّى إلى فَرْط إفراز الدوبامين في الدماغ؛ ما يعطي شعوراً مؤقتاً بالنشوة- فإن مآله الحتمي هو الخزي والكآبة والندم الوجودي، قضايا كهذه تثبت أن لذة اللحظة تنتهي إلى دمار الأمد الطويل.

يقول الغزالي: إن الشهوة إذا غلبت على العقل عميت البصيرة، والشيطان يستغل هذا العمى فيزين الحرام ويُطيل الأمل فيه، وقد قامت شبكة إبستاين على أساس هذا المدخل الشيطاني تحديداً، حيث تحولت الشهوة الخاصة والسلطة المطلقة إلى أداة لإفساد القلوب والأجساد.

هذا المصير البائس للغارق في الشهوة، رسمه الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الأخطل الصغير) في قصيدته الشهيرة «المسلول»، حين وصف شاباً قوياً ولكنه كان بلا حصن يحميه، فهو بلا مأوى وبلا أهل وبلا بلد، فانهارت حصونه ووقع في غواية فتاة ليل، فكانت نهايته مرضاً مُهلِكاً وعزلة مُذلَّة:

حَسْناءُ أيُّ فَتًى رَأتْ تَصدِ       قَتْلَى الهَوَى فِيها بِلا عَدَدِ

فَتَخَيَّرَتْهُ وكانَ شافِعَه          لُطفُ الغَزالِ وقوَّةُ الأسَدِ

وبعد أن أفنى ماله وصحته في غوايتها، حتى أصابه السُّل (مرض الهزال)، مات وحيداً، وكُتبت على حُجُرات قبره خلاصة تجربته الأليمة لتكون عظة لمن بعده:

كَتَبُوا على حُجُراتِهِ بِدَمٍ          سَطراً بهِ عِظَةٌ لِذِي رَشَدِ

هذا قَتِيلُ هَوىً بِبِنتِ هَوىً        فإذا مَرَرْتَ بِأُخْتِها فَحِدِ

الموقف الإيماني عند رؤية البلاء

إن رؤية هذا المصير المأساوي تقتضي من المسلم وقفة إيمانية متوازنة، فعندما يرى المؤمن أهل البلاء (بلاء المعصية أو الفضيحة)، يتوجب عليه موقف مزدوج:

  • الحمد والوقاية: أن يقول في نفسه: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به وفضلنا على كثير من عباده تفضيلاً، وهو حمد لا يستدعي الغرور، بل يوجب شكر الله على الستر والعافية، وسؤاله تمام العافية بالاستمرار في توقي مواطن الشبهات ودوام الأذكار التي تُعتبر حراسة دائمة على حصن القلب.
  • الرحمة والحذر: أن يشعر بالرحمة لأهل البلاء والضحايا، وأن يتذكر أن الجميع عرضة للفتن، وفي الوقت نفسه، يجب أن يزداد حذراً من الانزلاق في براثن الجرائم المنظمة والفساد المؤسسي الذي يستغل ضعف البشر وشهواتهم.

البعد الثاني: الستر والتشهير.. فقه التعامل مع الفساد العام:

هنا تبرز إشكالية شرعية وأخلاقية دقيقة: ما حكم الشرع في نشر تفاصيل هذه الجرائم الجنسية والشهوانية بعدما أصبحت قضية رأي عام؟ ومتى يسقط ستر المسلم؟

علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم فضل قيمة الستر على المسلم، فقال: «من ستر على مسلم ستره الله تعالى»، لكن هذا الستر له حدود وقيود فهو لا ينطبق في حالتين:

  • الفساد المؤسسي والجريمة المنظمة: فما حدث في جزيرة إبستاين فساد وجريمة منظمة تطال الحقوق العامة وحقوق الضعفاء (الأطفال والضحايا)، فينبغي الإنكار عليهم لمنع استمرار الظلم.
  • المجاهر بالفسق: لا يطبق الستر في حق المجاهر بالفسق؛ لأنه أسقط حرمة نفسه.

وتأسيساً على ما سبق، فعندما تصبح المعصية والمجاهرة بها جزءاً من منظومة قوة ونفوذ، فإن الإنكار على المنكر العام وكشف الفساد يصبح واجباً شرعياً لحماية المجتمع ودرء المفاسد الكبرى، والتسريبات هنا هي كشف لحقيقة إجرامية وفساد في السلطة لا يندرج تحت باب التشهير بمعصية خاصة.

حق الضحايا وتوبة المذنب

قد يتذرع البعض ممن وردت أسماؤهم بالتوبة أو الندم، لكن البعد الشرعي هنا واضح: التوبة بين العبد وربه لا تُسقط حقوق الآدميين.

  • حق الآدمي: إن الضحايا لهم حقوق كاملة في العقوبة الدنيوية للجاني، ورد المظالم، والتعويض الكامل عن الضرر النفسي والجسدي.
  • التوبة الصادقة: لا تكتمل التوبة من ذنب فيه حق للآخر إلا برد هذا الحق كاملاً، وهذا يتطلب محاكمة علنية وعقوبة رادعة.

البعد الثالث: الأسرة في وجه الإعصار.. التوجيه التربوي:

كيف يجب على الأسرة والمربين التعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة التي تتصدر المشهد الإعلامي؟

  • وقاية الأبناء من الاصطياد الإلكتروني (Grooming): يجب استغلال هذه القصة كنقطة انطلاق لتعليم الأبناء أخطار الثقة العمياء في شبكة الإنترنت، وأخطار الاصطياد الإلكتروني الذي يستهدف الأطفال عبر وسائل التواصل لاستغلالهم.
  • تعزيز الأخلاق العامة: يجب التأكيد على أن النفوذ والسلطة لا تعني النزاهة، حيث إن المعيار الحقيقي الاستقامة وليس المنصب.
  • ترسيخ المراقبة الإلهية: نُذكّر النشء بأن الخطيئة المرتكبة في أعتى القصور وأبعد الجزر ليست خفية عن الله تعالى، إن الخوف من الله تعالى الحصن الأخير الذي يحمي القلب من غواية الشهوة وزينة الدنيا.

إنّ قضية أسرار إبستاين هي بمثابة فحص للضمير العالمي، ورسالة لكل أسرة ومجتمع؛ ألا تستهينوا بخطوات الشيطان، ولا تدعوا الشهوة تصبح مدخلاً لهدم حصن القلب، إن الخوف من الله تعالى الحصن الأخير الذي يحمي القلب من غواية الشهوة وزينة الدنيا؛ (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات)، ونُذكّر النشء بأن الخطيئة المرتكبة في أعتى القصور وأبعد الجزر ليست خفية عن الله تعالى، فصلاح الأسرة يبدأ بسلامة القلب، وسلامة القلب لا تكون إلا بطرد سلطان الشهوة.


اقرأ أيضاً:

جيفري إبستين.. وخذلان غزة!

«أولمبياد باريس».. والتطبيع مع الشذوذ!

فضيحة تهز البرتغال.. 5 آلاف طفل تعرضوا لاعتداءات جنسية داخل الكنيسة

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة