مجزأة بن ثور.. من تستر إلى غزة

 لاذ الهرمزان بذعره بحصن من الحصون منيع، لاذ بتستر، مدينة بها الرفاه والجمال والغنى والمنعة، وكانت الهزائم قد نزلت به تترا من جند الخلافة، فتعقبه الرجال زحفا بأمر القائد الأعظم، أمير المؤمنين عمر - رضوان الله عليه - ويقودهم في زحفهم الأشعري عبدالله بن قيس أبو موسى - رضى الله عنه - وضربوا حول المدينة حصارا طوقها من كل جانب وكأنهم سوار حول معصم.

سيد الرجال في النزال

 وفى حصارهم جرت مناوشات ومنازلات قد كثرت حتى بلغت الثمانين، فيها تجلت بطولات الرجال، وكان سيد الرجال في النزال، السدوسي مجزأة بن ثور - رضى الله عنه - فقد أجهز على مائة فارس من جهابذة النزال في الفرس، حتى ذاع صيته لديهم فكان لاسمه وقع صاعق على قلوبهم، وله في قلوب رفاقه من جنود الحق إجلال وإكبار.

  قف أيها اليأس مكانك

 ‏ولأن المدينة عصية على المحاصرين فقد طال الحصار حتى بلغ ثمانية عشر شهرا ، خلالها كان الفرس يمطرون المسلمين بوابل من السهام بين الفينة والفينة فأحدثت بهم جراحات ، وكانوا يدلون من على الأسوار سلاسل بها كلاليب متوهجة من النار تفنى كل من تصيبه ، وكل ذلك جعل بعضا من اليأس يتسلل إلى قلب القائد أبى موسى ، وقبل أن يوغل اليأس في قلبه أحدث الله أمرا ، حيث وقع سهم بين يديه آت من داخل الأسوار ، فالتقطه لينظر ما به فرآه حسنا ، بصيص أمل وبادرة فرج ، رجل من الفرس يطلب أمانا له ولأهل بيته على أن يبوح بسر الطريق الذى منه يكون النفاذ إلى داخل الحصن ، تهلل وجه القائد بالبشر لما قرأ المكتوب ولم يمهل وكتب مجيبا لطالب الأمان ملبيا بالوعد له بما طلب ، وبذات السهم أرسل الجواب ، ووقع بين يدى طالب الأمان فخرج متسللا حتى مثل بين يدى أبى موسى وقال له ( لقد آثرت عدلكم على ظلم الهرمزان فقد عدا علينا وقتل ونهب وعزمت أن أساعدكم في الوصول إلى داخل المدينة فأعطني إنسانا قويا عاقلا يتقن السباحة حتى أرشده إلى الطريق ) وكأنى بعقل القائد أبى موسى وقد جال به على الفور، مجزأة بن ثور فهو لها وأهلها ، وكأن مجزأة قد قرأ عقل قائده فهرع بالقول .. أنا لها أيها الأمير فأرسلني، فلباه قائده لما رجاه.

جرأة الليوث الضواري

‏اصطحب الفارسي مجزأة واجتاز به نفقا مغمورا بالماء وسبحا معا حتى دخل فارس المسلمين أرض تستر وراح يجول فيها بالأماني أن تكون غنيمة الحق غدا، أبصر الهرمزان فهم به ليقتله لولا أن تداركته الفكرة أنه لم يؤذن له من أميره بشيء فانثنى عما عزم وقفل راجعا.

أدلى الفارس بدلوه فيما عاين ورأى ، وسمعه أبو موسى ، فانتدب معه ثلاثمائة من خيرة فرسان الإسلام ليسلكوا الطريق ، حتى إذا ما بلغوا المنزل المنشود أعلنوا التكبير لتكون شارة للهجوم والفتح ، ودخل مجزأة النفق وهو أمير الداخلين ، وأمرهم أن يتخففوا من ألبستهم ليسهل عليهم العبور ، ففعلوا ، بيد أن الطريق كان عسيرا فتعثر الرجال فيه فلقى الشهادة منهم أكثرهم ، وما بقى إلا ثمانون ، تقدم مجزأة وفرسانه إلى حامية الحصن في جرأة الليوث الضواري فما هي إلا سويعة أفنوا فيها تلك الحامية ، وفتحوا باب الحصن مكبرين فأجابهم إخوانهم بتكبير مثله ثم اقتحموا الحصن وتدفقوا خلاله سيلا من رجالات الصدق لا يقوم لهم من الفرس قائم ، ودارت معركة قاسية الوطيس أسفرت عن نصر مبين لأولى التوحيد على عبدة النيران ، وفى سورة القتال أبصر مجزأة الهرمزان فهرع إليه متعجلا والتقيا بسيفيهما واختلفا ضربتين فوقع سيف مجزأة بسيف الهرمزان فارتد عليه وجرح جرحا أوقعه على الأرض شهيدا يفور دمه على أرض الجهاد عزا وشرفا ، ليختم سيره المبارك بشهادة علياء خلدت ذكره في تاريخ أمتنا المجيد .

 في رثاء مجزأة

‏ارتقى البطل السدوسي إلى العلياء بعد رحلة من الجود والكرم والعطاء، ارتقى بعد أن أثخن في العدو وجاهد الجهاد النبيل، لتكون فعاله ضياء حق لمن خلف من بعده من حاملي دعوة الحق إلى يوم يبعثون، وليجزم بما كان منه أن الحياة توهب لمن يحرص على الموت، ومع الحياة يحرز الشرف والكرامة، فلا نامت أعين الجبناء.

‏رحمة الله عليك يا ابن ثور، فقد علمتنا أن نكون واثقين فيما حباه الله لنا، فنطلب لأنفسنا ما نحن له أهل وما يليق بعزتنا، فقد رأيناك حريصًا على النهوض بمهمة ثمنها الحتف والهلاك، وضريبتها الروح والدماء، فما لِنتَ للباطلِ، ولا هُزِمت أمامَ الصعاب وما ذاك إلا لعلو همتك، وسبق عزيمتك، فإذا كانتِ النفوسُ كبارًا، تعبتْ في مرادِها الأجسامُ

الثلاثية القرآنية

 ولقد صبر مجزأة وصابر، ومعه في الصبر رفاقه أبناء الجهاد، وأقاموا بين براثن الموت شهورا عددا، فما جزعوا من موت يختطفهم بنشاب الكافرين تارة، وتارة يتخطفهم بكلاليب النار، وقول الله يتردد فى آفاق نفوسهم (اصبروا وصابروا ورابطوا) فتزيد عزيمتهم وتصلب كأنها صخور الجبال، وبهذا الصبر نالوا المنى، وبه ظهروا على العدا، ولولاه ما غرد شاعر ولا شدا:

لَأسْتَسْهِلنَّ الصَّعبَ أوْ أُدْرِكَ المُنى * فما انْقادَتِ الآمالُ إلا لصابِرِ

  فهلا وعى المترسمون خطى الأولين ما كان عليه الأولون فيصبرون على الأذى والعنت ليقيموا دعوة الحق ولينالوا شرف نصرتها؟

مجزأة والطوفان

‏نعم لقد وعى أبطال الطوفان ذلك، فبمثل جسارة الرجال بالأمس، عدا رجال اليوم على ألد عدو لأمة الإسلام، على كيان الزور والغدر والبهتان، بغتوهم بغتة أفقدتهم كل صواب فتخبطوا تخبط الأعشى فى دياجير الظلام، وأختلط حابلهم بنابلهم فقتل بعضهم بعضا، ليرسخوا راسخا فى النفوس بأنهم بكيانهم أوهى من بيت العنكبوت، وما انتفاختهم إلا انتفاخة هر توهم صولة الأسد، لقد أذهلت جسارة جند الخلافة عقول الفرس وعقول كل من رأى وكل من سمع ، وبمثلهم أذهل رجال الطوفان فى هجمتهم عدوهم وعدونا وكل من رأى وكل من سمع ، ليقول الرجال جميعا بالأمس واليوم: أن من تربوا فى مدرسة القرآن مباينين لكل ما عداهم مباينة تجعلهم يلامسون حد الإعجاز، فحارت العقول جميعا وتساءل أصحابها.. من هؤلاء ومن بناهم وصنعهم صنعة الإعجاز على عينه؟

في عيون العناية

وفرج الله يأتي بعد الإياس من الفرج (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) وهذا حال القائد أبى موسى حين جاءه يسر الله بعد أن عسرت، والوسع بعد أن ضاقت، وساق الله له من خصومه من يعينه على تحقيق المبتغى، كما ساق من قبل نعيمَ بنَ مسعود الأشجعي للمسلمين ونبيهم فى ضيقتهم يوم الأحزاب

فكم ﻟﻠﻪِ ﻣﻦ ﺗﺪﺑﻴﺮِ ﺃﻣـﺮ ٍ * ﻃـﻮﺗﻪ ﻋـﻦ ﺍﻟﻤـشاﻫــﺪﺓِ ﺍﻟﻐـﻴﻮﺏُ

ﻭﻛﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻴﺐِ ﻣﻦ ﺗﻴﺴﻴﺮِ ﻋﺴﺮٍ * ﻭﻣﻦ ﺗﻔﺮﻳﺞِ ﻧﺎﺋﺒﺔٍ ﺗﻨﻮﺏُ

ﻭﻣﻦ ﻛﺮﻡٍ ﻭﻣﻦ ﻟﻄﻒٍ ﺧﻔﻲٍّ * ﻭﻣﻦ ﻓﺮﺝٍ ﺗﺰﻭﻝُ ﺑﻪ ﺍﻟﻜﺮﻭﺏُ

فليكن الأمل معقودًا مزاجه الإيمان أن مع العسر يسرا وأن فرج الله آت لا محالة، فلا يهولننا ما نرى من بلاءات عظام حلت بأمتنا، فوعزة العزيز لتفرجن عما قريب كما فرجت عن المسلمين يوم الأحزاب وعن أبى موسى يوم تستر.

من يعي تلك الحقيقة؟

 بقي أن نقر حقيقة ماثلة فى حكاية مجزأة، أن الظلم والضيم والقهر خير معين للخيانة، أن تنشب أظفارها فى القلوب، وشر ماحق لولاء بنى الوطن للوطن، فما حدا بالفارسي أن يعين غرماء قومه على قومه إلا قسوة الظلم ومرارة القهر، فهل وعى الواعون تلك الحقيقة؟

  وفي الختام: دمت يا مجزأة علما للحق والفداء، دمت رمزا للجسارة والذكاء، ولتكن سيرة أيامك هدى تتحسسه خطى المقتفين للأثر السالكين على الدرب. 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة