مراعاة الفروق الفردية بين الأبناء
بعد أن تناولنا في المقال السابق «مراعاة
الفروق الفردية بين الأبناء»، وتوقفنا عند أهمية إدراك الآباء والمربين لاختلاف
الطبائع والقدرات بين الأبناء، وما تقتضيه تلك الفروق من أساليب تربوية متمايزة
تراعي التفاوت في الذكاء والميول والقدرات والانفعالات؛ ندرك أن هذا الوعي التربوي
لا يكتمل إلا إذا اقترن بميزان دقيق يحكم التعامل اليومي مع الأبناء، وهو ميزان
العدل.
ذلك أن الاعتراف بالفروق الفردية لا يعني
بحال من الأحوال تفضيل أحد الأبناء على حساب غيره في المعاملة، أو الميل العاطفي،
أو التقدير المعنوي أو المادي؛ بل الواجب أن يُراعى العدل في كل ذلك، مع الاحتفاظ
باعتبار تلك الفروق عند التوجيه والرعاية.
ومن بين أُسس التربية النبويّة مراعاة
الفروق التي تكون بين الأبناء؛ فمعلومٌ شرعاً وعُرفاً وعقلاً أنّ الناس مختلفون
حتى لو كانوا إخوة أو أقارب أو أصدقاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً»(1).
ومن شواهد السُّنّة أيضًا مما يدلِّل على
وجود الفروق الفرديّة: ما ورد عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم، قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ،
كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ،
قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلأ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا
أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا
وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ
قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ
فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ،
وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ
الَّذِي أُرْسِلْتُ بِه»(2).
كما أنّ في القرآن الكريم دليلاً واضحاً
على وجود الفروق الفرديّة بين المخلوقات -كما في عالم النبات- ففي قوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ
مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ
صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد: 4).
ويؤكّد علماء النّفس أنّ الأفراد يختلفون
كمًّا وكيفًا، وعلى نطاقٍ واسعٍ وشاملٍ يظهر في كافة مظاهر الشخصية جسميًّا
وعقليًّا واجتماعيًّا وانفعاليًّا؛ حيث إنَّ لكل فرد عالمه الخاص الفريد وشخصيته
الفريدة المميزة عن باقي الأفراد وله حاجاته وقدراته وميوله، وهو يختلف عن كل من
سواه بسبب سماته الموروثة وخصائصه المكتسبة، ولا يوجد اثنان على وجه الأرض صورة
واحدة طبق الأصل، وحتّى التوائم المتماثلة التي تنشأ من بويضة واحدة ذات بداية
واحدة في النمو من كافة مظاهره سرعان ما يختلفان بسبب العوامل البيئية المتعددة
التي تؤثر في النمو(3).
وبنظرةٍ يسيرةٍ إلى هَدْي النبوّة في
رعاية الفروق الفردية، نجده صلى الله عليه وسلم كان يُخاطِب الأبناء كُلّ على قدر
طاقته الفكرية والثقافيّة، وقد بوّب الإمام البخاريّ في كتاب العلم بَاب «مَنْ
خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا».
وفي توظيفه لمهارة زيد بن ثابت في ترجمة
لغة غير العربية، ثم كتابة الوحي الشـريف، في ذلك دليل على مراعاته للفروق الفردية
للشباب في عصره؛ فَزيد كان حافظًا لما نزل من القرآن الكريم، يقول الإمام الغزالي
في «إحيائه»: «مِن وظائف المُعلِّم أن يقتصـر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يُلْقِي
إليه ما لا يبلُغُه عقلُه فيُنَفِّرُهَ أو يُخَبِّط عليه عقلَه، اقتداءً في ذلك
بسيّد البشـر صلى الله عليه وسلم حيث قال: «نحن معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن ننزل
الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم»(4)، فليَبُثَّ إليه الحقيقة إذا
عَلِم أنه يستقل بفهمها»، ثم عقّب قائلاً: «ولا ينبغي أن يُفْشِيَ العالِم كلّ ما
يعلم إلى كلّ أحد، هذا إذا كان يفهمه المتعلم ولم يكن أهلاً للانتفاع به فكيف فيما
لا يفهمه»(5).
وعلى ضوء ما سبق، يلزم الآباء والأمهات
مراعاة الفروق الفردية لدى الأبناء؛ بحيث لا يُضرب ولدٌ لأنه لا يُحسن الإجابة في
اختباراته، أو نتيجته سيئة بخلاف أخيه مثلاً؛ فربما كان متفوقًا في مجال آخر، وكذا
لا يعنّف ابن من الأبناء لأنه لا يفكر بجودة تفكيره أخته مثلاً؛ فالفروق الفردية
طبيعة فطرية وخِلقية.
وهنا يأتي الحديث عن ركيزة تربوية أخرى
لا تقل أهمية عن مراعاة الفروق الفردية، بل يمكن القول: إنها الحصن الذي يحفظ
القلوب من التباغض، ويقي الأسرة من التفكك، ويُشعِر كل ابن بمكانته وقيمته رغم
اختلاف القدرات والاهتمامات.
إنها قيمة العدل والمساواة بين الأبناء،
تلك القيمة التي حثّت عليها الشريعة، وأكدتها السُّنّة النبوية في صور عملية
ناطقة، وشدد علماء التربية والنفس على ضرورتها في بناء شخصية متوازنة، وشعور داخلي
بالأمان والانتماء داخل الأسرة.
اقرأ
أيضاً:
مراعاة الاحتياجات النفسية والعاطفية للأبناء
استخدام رسائل التأنيس والطمأنينة
__________________
(1) صحيح مسلم (2547)، ويقول محمد فؤاد
عبدالباقي: «قال ابن قُتَيْبَة: الراحلة النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره
فهي كاملة الأوصاف فإذا كانت في إبل عُرِفَت، قال: إن معناه أن مرضى الأحوال من
الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جدا كقلة الراحلة في الإبل» (صحيح مسلم بتعليقات
محمد فؤاد عبدالباقي، ج4، ص1973).
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، بَابُ
فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ (79).
(3) التوجيه والإرشاد النفسي: د. حامد
عبدالسلام زهران، ص76، ط3/ عالم الكتب، مصر (بدون تاريخ).
(4) قال الحافظ السخاوي: هذا حديث حسن
أورده مسلم في مقدمة صحيحه، (انظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: العِراقي (725
- 806هـ)، ابن السبكي (727 - 771هـ)، الزبيدي (1145 - 1205هـ)، ج1، ص166، ط1/
1408هـ= 1987م، دار العاصمة للنشر- الرياض).
(5) إحياء علوم الدين: ج1، ص57.