نجاح الداعية.. بين إخلاص النية ووهْم أرقام المتابعين
لا شكّ أن
الداعية أو الناصح حين يُقبل على الدعوة، يُقبِل بقلبٍ نابضٍ بالرغبة في نفع الناس
ودلالتهم على الحق، فيفرحه إقبالهم، ويؤلمه صدودهم، وليس من العدل أن نُهاجم هذا
الألم أو نُسفِّهه، فهو شعورٌ إنسانيّ فطريّ، نابع من حب الخير والحرص على
الهداية.
لكنّ المداواة
تبدأ من تصحيح زاوية النظر؛ فالدعوة ليست امتحانًا للأثر، بل عبادة للآمر، وما على
العبد إلا أن يبلغ البلاغ، ويترك الحساب لمن بيده الحساب؛ وقد علّمنا القرآن هذا
المبدأ في غير موضع، فقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ {21}
لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 22)، (فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (الرعد: 40).
إنها دعوة
للطمأنينة الداخلية، أن يُقبِل الداعي على عمله بنفسيّة المبلِّغ المعذِر إلى
ربّه، لا القَيّم على خلقه ولا الحاكم عليهم بمدى استجابتهم، فالله وحده هو
الهادي، وهو الأعلم بمن ضلّ ومن اهتدى.
تعريف النجاح الدعوي
كثيرًا ما
تتسلّل إلى نفوس العاملين في الدعوة مقاييس رقمية خفيّة؛ عدد المتابعين، وحجم
التفاعل، وسرعة الانتشار.. حتى صار بعضهم يزن أثره بميزان الشهرة لا بميزان
الإخلاص، لكن الدعوة في ميزان الله ليست بعدد المستجيبين، بل بصدق الباذلين: (قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن
رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) (الأنعام:
104).
فالجدوى
الحقيقية في الدعوة ليست في النتيجة، بل في أداء الأمانة، فالداعي يؤدي ما عليه،
ويُخلِص في نصيحته، سواء أُخذ بها أم أُعرض عنها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النَّعم» (متفق عليه)، فالأثر
الحقيقي قد يكون في شخص واحد، لا تُدركه عدادات المتابعة، لكنه في ميزان الله أعظم
من جماهير تُصفّق ولا تعتبر.
حقيقة الدعوة.. إخلاص البلاغ
إنّ الداعية إذا
استحضر أن الأجر عند الله تعالى إنما يكون على النية والسعي لا على النتيجة
والمآل، استراح قلبه وثبتت همّته، فالدعوة قبل أن تكون مهنة أو مهمّة، هي عبادة
لله عز وجل، يدخل فيها الداعي بقلب العبد لا بعقل المدير، ويخرج منها برجاء القبول
لا برجاء التفاعل.
قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه)، فما
دام العبد مخلص النية، صادق الاتجاه، مؤدياً ما أمره الله به من البلاغ، فإن جزاءه
ثابت لا يتأثر بإعراض الناس أو إقبالهم؛ (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ {25} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
حِسَابَهُمْ) (الغاشية)، فليست هداية الخلق من تكليفه، بل تبليغ الحق على وجهه
هو ما طُلب منه.
إدراك هذه
الحقيقة يُعيد للداعي توازنه كلما اضطربت المقاييس من حوله، ويقيه من انفعالات
تنشأ حين يرى مخالفة الناس له أو ضعف تجاوبهم معه، فالمقياس في الشرع هو أداء
الأمانة كما أُمرت، لا كما أُعجبت، وقد فصّل القرآن هذا المعنى في أكثر من موضع
ليُثبّت قلب الداعي على هذا القانون الرباني: (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ
عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) (ق: 45)،
وقال الطبري في تفسيرها: «لم تُبعث لتجبرهم على الإسلام، إنما بُعثت مذكّرًا فذكّر».
فالمسؤولية إذن
في البلاغ، لا في الإقناع ولا إلزام الناس على الأخذ بالنصيحة، ولو شاء الله لهدى
الناس أجمعين، ولكنه سبحانه جعل لكل عبد اختيارًا وحسابًا، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم
بِوَكِيلٍ) (الأنعام: 107).
فخّ الشهرة والأرقام
أصبح لبعض
المشتغلين بالدعوة اليوم نوع من الارتباط الشرطي بين جودة الأداء وعدد المتابعين،
حتى تحولت الدعوة أحيانًا إلى صنعة تُدار بمنطق السوق، لا بمنطق العبودية، وتحوّل
المنبر الدعوي إلى منصّة عرض، يبحث فيها بعضهم عن إثبات الذات لا عن إعلاء الحق، وهذا
خطر عظيم؛ إذ قد تكون الأرقام استدراجًا لا تكريمًا، وقد تكون الشهرة فتنة لا نعمة،
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا قاسم والله يعطي» (رواه البخاري)،
فهو صلى الله عليه وسلم بلّغ، والله وحده هو الذي يهدي، فكيف يُغترّ عبدٌ بأن أقبل
عليه الخلق أو أعرضوا عنه، وهم جميعًا بيد الله تعالى؟
إنّ العمل لله
ثقيل لا يطنّ كطنين الشهرة، لأنه صادق لا أجوف، والهمّ الحقيقي للداعي يجب أن يكون
خلوص عمله لربه، لا سعة تأثيره في الخلق، فالله تعالى يُعبد بالمسؤولية لا
بالبطولة، وبالصدق لا بالعدد، ومن صدق في قصده؛ بلغ عند الله ما لا تبلغه الجموع
بأعدادها.
ومن ثمار هذا
المعنى أن الداعية لا يتململ إذا لم ير أثر دعوته، ولا ييأس من قلة المستجيبين؛
لأن الأجر عند الله على البلاغ لا على الاستجابة، ومن علم أنّ هداية القلوب بيد
الله وحده، سلم من التكلّف، ونجا من الغرور، وتخفّف من القلق، فصار يؤدي واجبه
بإتقان وطمأنينة، لا بشَرَهٍ ولا بيأس، وحين ينظر إلى أثره في الناس، ينظر إليه
نقدًا لتجويد أدائه لا قياسًا لقيمته، لأن قيمته عند الله لا تُقاس بمدى
الاستجابة، بل بمدى الصدق والإخلاص.
وهذا هو الفارق
بين من يعبد الله بمسؤولية البلاغ، ومن يعبد ذاته بطلب القبول، فالأول عبدٌ لله،
يؤدي واجبه مطمئنًّا لحكم ربه، والثاني أسيرٌ لصورته في أعين الخلق، لا يهدأ له
بال إلا إذا رأى أثرًا ملموسًا يرضي غروره.
توصيات عمليّة لتجديد الهمّة
حين يشعر الداعي
بالفتور أو يتأثر بانخفاض المتابعة أو ضعف التفاعل، فليجدد صلته بالله قبل الناس، ومن
سبل ذلك:
1- إحياء
العبادة السرّية: خصص أعمالًا لا يعلم بها أحد، ليبقى بينك وبين الله باب خفيّ من
العمل يمدّ قلبك بالصدق والصفاء.
2- تذكّر
بداياتك: كيف بدأت دعوتك حبًّا في نفع الخلق، لا طلبًا لإعجابهم.
3- راجع منهجك
وأساليبك: من باب الإتقان لا من باب التبرير أو جلد الذات، فالنقد هنا وسيلة تطوير
لا وسيلة إحباط.
4- استصحب نية
البلاغ عن الله لا عن نفسك: فحين تتحدث لتبصير الناس بالحق لا لاستمالتهم إليك،
يصفو خطابك ويخلص.
5- استعن
بالتأمل في سنن الله في الهداية: فالهداية ليست بيدك، وإنما فضلٌ يُؤتيه الله من
يشاء.
لنتأمل قوله
تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم
بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام: 57)، فالمؤمن إذا كان على بيّنة من ربه، استراح من خصومة
الأرقام، ومن جدال الأثر، لأنه يعلم أن الحكم لله وحده، وأنه هو سبحانه الذي
يُقوّم العمل ويجزي عليه، وهكذا تُصبح الدعوة في حقيقتها عبادة خالصة لله تعالى،
لا تُقاس بانتشارها، بل بصدقها، ولا تُثمَّن بنتائجها، بل برضا الله عنها.
ففي نهاية
الطريق، لن تُسأل: كم تابعك الناس؟ بل ستُسأل: كم أخلصت لله فيما بلّغت؟
ومن ثبّت قدميه
على هذا المعنى لم يتململ من قلة المستجيبين، ولم يُغرّه إقبال الجماهير، لأن
ميزانه في السماء لا على الشاشات.