هل تغيِّر الخوارزميات الخارطة السياسية للعالم؟

في مطلع كل اكتشاف جديد عبر التاريخ
الإنساني الطويل، تعامل الإنسان مع هذا المتغير بالتوجس والرهبة وشيء من الرفض
المشوب بالقبول أو الحرب على هذا الاكتشاف الجديد.
فحين اكتشف الإنسان النار تعامل معها
بقداسة حتى تعرف على استخداماتها، فنشأت أجيال لا تتصور أن هناك سالفين عاشوا
بدونها، وبعد أن كانت مصدراً للخوف في بداية اكتشافها، صارت مقوماً أساسياً من
مقومات الحضارة الإنسانية التي بدأت بالفعل بعد استخدام النار والتحكم بها.
وبعد حدوث الثورة الزراعية، تحولت الحياة
على الأرض لصورة مغايرة تماماً لما قبلها، حيث تحقق نوع من الاستقرار بجوار المياه
والأرض الصالحة للزراعة، وتكونت المجتمعات، وسعى الإنسان لتوسيع نصيبه في الأرض
فنشبت الحروب والصراعات، وبالرغم من تلك التضحيات التي خاضها من أجل الحفاظ على
أرضه وهويته واستقراره، فإن البشرية لم تندم يوماً على اكتشاف الزراعة وبناء حضارة
قامت على تغيير نمط الحياة القائم قبلها.
ومن العجيب أن اختراع الكتابة ذاته منذ 3
آلاف سنة قبل الميلاد قد لاقى اعتراضاً من البعض بداعي الخوف، كسقراط الذي خشي أن
الاعتماد عليها قد يضعف ذاكرة الإنسان حين يكتفي بالتدوين دون الحفظ، لكنها صارت
أساساً لحفظ وتطور التراث الإنساني كله ومنه الشرائع والدين والأخلاق والتاريخ
والحدود الجغرافية والقانون.
وهكذا بالنسبة لكل طفرة تطور على الأرض
مثل الثورة الصناعية، وبناء المصانع ثم اكتشاف الكهرباء، ثم اختراع التلفزيون، ثم الإنترنت
وما تبعه من وسائل التواصل الاجتماعي ووصولاً إلى الذكاء الاصطناعي اليوم وما صحبه
من الكثير من الانتقادات والمخاوف التي وصلت لتهديد البشرية في وجودها.
الذكاء الاصطناعي وقفزات نحو المستقبل
تعيش الإنسانية اليوم تلك المرحلة من
الصراع المعتاد في كل محطات التغيير الكبرى عبر تاريخها، من خوف وقلق وتساؤلات
أخلاقية كما حدث مع اكتشاف النار والزراعة والكتابة والإنترنت، وبالرغم من تلك
المخاوف، فإن عجلة الزمن التي لم ترجع يوماً إلى الخلف، سوف تأخذ مسارها الطبيعي
في التقدم السريع نحو المستقبل، وسوف تتعامل بصورة طبيعية تجاه مخاوفها فتبدأ
بالرفض الطبيعي لأنها تهدد المألوف، ثم تتجاوز لتتخطى ثم تحاول ترويض حالة الرفض
حين تكتشف الفوائد المذهلة لهذا التغيير، وأنه فوق ما يحلم به الباحثون عن المزيد
من التغييرات المبهرة، سوف تعتاد الأمر ليصبح جزءاً من حياة الإنسان وحضارته، ثم
لا يمكن الاستغناء عنه كجزء لا يتجزأ من قوانين الحياة اليومية وممارساتها
المعتادة.
لقد خفتت بالفعل أصوات المتخوفين لتظهر
على أنقاضها أصوات أخرى، وهي أصوات المطالبين بالمزيد من التطوير، ونقل الفكرة من
الغرب إلى الشرق ليتوقف عند كونه مجرد سوق استهلاكية لفترات طويلة، وآن الأوان أن
يدخل تجارب الإنتاج الفكري، وتصاعدت المطالبات بإنشاء كليات ومدارس ومعاهد
وأكاديميات لتدريس تلك العلوم وفتح أبواب الابتكار لأبنائنا لتبدأ بعض الأنظمة
العربية بإنشائها بالفعل ولكن على استحياء وداخل إطار التجربة المنقولة وليس
الابتكار الذاتي.
ففي الوقت الذي تتنافس فيه المؤسسات
الغربية الكبرى في توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات جديدة وغريبة، مثل توظيفه في
اتخاذ قرارات مصيرية تخص الإنسانية، مثل توظيفه في اتخاذ القرارات السياسية
العامة، أو قرارات إشعال الحروب، بل واستخدامه في إدارة الحروب التي ما عادت
مستقبلية، وإنما أفكار مرعبة نعيشها بالفعل.
وحشية الخوارزميات.. أم سادية العاملين عليها؟
لقد وجهنا سؤالاً مباشراً لأحد برامج
الذكاء الاصطناعي عن دوره في إدارة السياسة العالمية مستقبلاً، فأجاب بصورة مرنة
وكأننا نحاور عقلاً يحمل إرادة، وليس مجرد منفذ لأوامر المبرمج، قال: إنه يقوم
بمهام سياسية بالفعل، وإنه أصبح فاعلاً غير مرئي يوجه الحملات الانتخابية ويؤثر في
الرأي العام بشكل مباشر، ويساعد الحكومات في اتخاذ قرارات مصيرية، باعتبار أن
السياسة لم تعد فن الممكن، بقدر ما أصبحت علماً للبيانات والمعلومات الضخمة.
وهنا يمكن أن نعيد طرح السؤال بصيغة أخرى
أكثر دقة: هل ما زال الإنسان صانع القرار الحقيقي، أم أن الذكاء الاصطناعي بدأ
يفرض منطقه الخاص على الساحة السياسية باعتباره يملك كماً من البيانات التي لا
يحتملها عقل بشري؟!
إنه حقاً تصور مرعب، أن يكون ذلك الوهم
في عقولنا قادراً على اتخاذ قرار على غير إرادتنا، بغير عامل أخلاقي يذكر، بغير
خلفية دينية سماوية تراعي حقوق الإنسان، بغير اعتبار لمشاعر!
إن الممارسات الإنسانية الأخيرة التي
تشهدها الساحة العالمية حيث مسار العالم نحو المجهول من قتل دون حساب، وإشعال حروب
دون داع، وتعدٍّ على دول حرة دون جريرة ينبئ بأن هناك عقلاً آخر غير العقل الإنساني
هو ما يوجه مسار البشرية في المرحلة الحالية، عقلاً متخبطاً يحاول فرض هوية جديدة
على العالم، هوية همجية ليصير العالم الجديد في قبضة الخوارزميات دون أي قيود
تفرضها الهويات القديمة، هوية بغير ضمير سماوي أو إنساني، تنتمي في حقيقتها
للبيانات الضخمة، أو لعقلية صانعها الذي يحمل نفس الهوية، لتظهر في ثوبها السادي،
والمتوحش في الوقت ذاته.
الصراع القائم ليس فيه حروف عربية بعد
إن الصراع الرقمي المحتدم اليوم بين
الصين، مثلاً، والولايات المتحدة الذي قد بدأ تطبيقه على أرض الواقع خاصة فيما يخص
البرامج الأمنية لا يحمل حروفاً عربية، أو بمعنى أكثر وضوحاً، العرب ما زالوا
بعيدين تماماً عن حقل الإنتاج الرقمي حتى نظرياً، ففي الولايات المتحدة بدأت
الشرطة تستخدم أنظمة التنبؤ بالجريمة لتوجيه دورياتها الأمنية، وأما في الصين فتم
استخدامها في أسواق المال فيما يسمى بمبادرة «الحزام والطريق» عبر تحليل الأسواق
وتوجيه الاستثمارات، وأما روسيا فمجالها فيه الحروب الإلكترونية ليدخل في نطاق
أهمية السلاح النووي.
إن المخاوف الإنسانية اليوم من اتساع
دائرة الخوارزميات وتداخلها في عالمنا اليوم مخاوف معتبرة، لكنها لن توقف ذلك المد
المتغول رغم التسليم بحتمية سلبياته على المستقبل الإنساني، لكن تجاهله لم يعد
ممكناً، ليكون التحدي الحقيقي أن تنشأ نسخة من الخوارزميات تحمل هوية إنسانية كاد
العالم أن يفقدها بتعاليم العولمة، نسخة أخلاقية تستخدم لخدمة العدالة والحرية
التي لا تفقد الإنسان إنسانيته، ولا تفاجئ البشرية بقرارات دموية لأبرياء يقطنون
العالم إلى جوار الآخرين، فهل تتحد الأمة العربية وتنتبه لتتملك زمام أمورها بعد
غفوة طالت، وآن الأوان للخلاص منها؟