الإسلام الذي نُؤْمِن به وندعو إليه ليس مادة هلامِيَّةً، يُشَكِّلها مَنْ يَشَاء كما يَشَاء، بل هو “رسالة حَضَارية متكاملة”، أو كما يُعَبِّرون اليوم، “مشروع حضاري مُتَكَامل” شَرَحَه دُعَاتُه، وبَيَّنُوا مَعالِمَه، ووَضَّحُوا قواعِدَه، تَوْضيحًا يُزِيل كل غَبَشٍ أو غُمُوض، فلا مَجَال لقول قائل: إنكم تَدْعُونَنا إلى ضَبابِيَّة أو ظَلامِيَّة، لا يُعْرَف أصلُها ولا فَصلُها، بل إن إسلامنا الذي نَتَبَنَّاه بَيِّن واضح، كالشمس في رابعة النهار، وأَعْنِي به الإسلام الذي يدعو إليه تيار “الوسطية الإسلامية” الذي أَتَكَلَّم باسمه، وأعْتَبِره الناطق الصادق باسم الإسلام.
ومن خصائص الإسلام:
- إسلام يخاطب العقول، ويعتمد عليه في فهم الدين، وعمارة الدنيا، وهو يدعو إلى العلم والتفوق فيه، والأخذ بأحدث أساليبه، والنزول على حكمه في كل المجالات، ويعتبر التفكير عبادة، وطلب كل علم تحتاج إليه الأمة فريضة، والتخلف عن ركب العلم المعاصر منكرا وجريمة، وأن التفوق في ميادينه النظرية والتطبيقية، المدنية والحربية واجب ديني، وكل وسيلة تؤدي إلى هذا الواجب فاتباعها واجب. وهو لا يرى أي تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح؛ فالعقل -كما قرر علماؤنا- هو أساس النقل، إذ به ثبت وجود الله تعالى، وثبتت النبوة، كما لا يرى أي تعارض بين حقائق العلم وقواطع الإسلام؛ فلا مجال للصراع بينهما، كما حدث في ظل أديان أخرى؛ فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين.
وهو يعتز بالتراث الإسلامي، ويستهدي به، ويفرق فيه بين المستوى الإلهي المعصوم الثابت -وهو القليل- فيلتمس فيه الهدى والنور، والمستوى البشري المتجدد -وهو الأكثر- فيستهدي به ويتخير منه؛ فهو منارة تهدي، وليس قيدا يعوق، وهو ينفتح على تراث العلم والفكر في العالم كله، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، وينتفع بتجارب الأمم قديما وحديثا، فيأخذ منها أفضل ما فيها دون تعصب لرأي قديم، ولا عبودية لفكر جديد، لا ينقطع عن الماضي، ولا ينعزل عن الحاضر، ولا يغفل عن المستقبل، يأخذ من الديمقراطية أحسن ما انتهت إليه من الصيغ والضمانات، لحماية حقوق الشعوب في مواجهة الحاكمين، ويأخذ من الاشتراكية أمثل ما انتهت إليه من الصيغ والضمانات، لحماية حقوق الفئات المطحونة في مواجهة المالكين والقادرين، ويستفيد من كل الآراء والنظريات، وإن كانت فلسفتها الأساسية مرفوضة عنده، كفلسفة فرويد، وماركس، ودوركايم. والحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها، فهو أحق الناس بها.
2- إسلام يدعو إلى الاجتهاد والتجديد، ويقاوم الجمود والتقليد، ويؤمن بمواكبة التطور، ومواصلة التقدم، وأن الشريعة لا تضيق بجديد، ولا تعجز عن إيجاد حل لأي مشكلة، وإنما العجز في عقول المسلمين، أو في إرادتهم، وأن الاجتهاد أصبح في عصرنا فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، وأن بابه مفتوح لأهله بشرطه، سواء كان اجتهادا ترجيحيا انتقائيا، أم كان اجتهادا إبداعيا إنشائيا، فرديا أم جماعيا، جزئيا أم كليا.
ولا يملك أحد إغلاقه، وقد فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المجتهد مأجور على اجتهاده، وإن أخطأ فيه، وأن علينا أن نهيئ المناخ العلمي لظهور المجتهدين الموجودين، على مستوى الإسلام، وعلى مستوى العصر، جامعين بين القديم النافع والحديث الصالح، مقدرين في اجتهادنا ظروف الناس، وضرورات الواقع، وتغيرات العصر، وما عمت به البلوى، مستفيدين من الثروة الفقهية الهائلة، التي خلفها أئمتنا وفقهاؤنا على تعدد مدارسهم ومشاربهم، منذ عهد الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من أئمة المذاهب، ومن تلاهم، ممن اتسم بالتجديد، أو التزم بالتقليد، نتخير من كل ذلك، ما هو أصح دليلا وأهدى سبيلا، وأليق بتحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، واضعين نصب أعيننا ما قرره علماؤنا المحققون: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وأن الشريعة إنما شرعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها قامت على حفظ الأديان والأنفس والعقول والأعراض والأنساب والأموال.
3- إسلام يتسم بالوسطية في كل شيء، ويجعلها من خصائص أمته الأساسية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (القرة:143) فهو يمثل التوازن الإيجابي في كل المجالات، اعتقادية وعملية، مادية ومعنوية، فهو يعمل في حياة الفرد على الموازنة بين الروح والمادة، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة، وبين الحقوق والواجبات، ومن ناحية أخرى يقيم الموازين القسط بين الفرد والمجتمع، فلا يعطى الفرد من الحقوق والحريات حتى يتضخم على حساب مصلحة المجموع، كما فعلت الرأسمالية، ولا يعطى المجتمع من الصلاحيات والسلطات ما يجعله يطغى ويضغط على الفرد، حتى يضمر وينكمش، وتذبل حوافزه ومواهبه، كما فعلت الشيوعية والاشتراكيات المتطرفة..
فلا يقر نظرية الرأسمالية في تضخيم الحريات الفردية، على حساب العدل في المجتمع، وبخاصة الفئات الضعيفة فيه، ولا يقر نظرية الماركسية وربائبها في خنق الديمقراطية السياسية، باسم الديمقراطية الاجتماعية، وتحت الشعار الخادع: لا حرية لأعداء الحرية. بل يعطى الفرد حقه، والمجتمع حقه، بلا طغيان ولا إخسار، كما نظمت ذلك أحكام الشريعة وتوجيهاتها وبهذا يرعى حرية المواطن، كما يحافظ على حرية الوطن، وهي حرية الفكر لا حرية الكفر، وحرية الضمير لا حرية الشهوة، وحرية الرأي لا حرية التشهير، وحرية الحقوق لا حرية الفسوق. ونؤمن هنا بأن الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؛ فلا يجوز لأحد أن يستذل أحدا، ولا أن يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله؛ فالحرية الحقيقية ثمرة التوحيد الحقيقي، ونتيجة لازمة لمعنى “لا إله إلا الله”.
4- إسلام يتميز بالواقعية التي هي إحدى خصائصه العامة؛ فهو لا يحلق في أجواء المثالية المجنحة، ولا يعامل الناس على أنهم ملائكة أولو أجنحة، بل بشر يصيبون ويخطئون، ويستقيمون وينحرفون، وهو يعترف بضعف البشر، ووجود الخطأ والشر، ولهذا رغب ورهب، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرع العقوبات، وفتح باب التوبة، ووضع للضرورات أحكامها، وقدر لأصحاب الأعذار أعذارهم، فشرع الرخص والتخفيفات والاستثناءات في أحوال شتى، منها الخطأ والنسيان والإكراه، وأجاز النزول إلى الواقع الأدنى، عند تعذر المثل الأعلى.
ومن واقعيته أنه يكرم الإنسان، ويسمو به، ويعترف بفطرته وكرامته، لا يهبط به إلى درك الحيوان، ولا يعلو به إلى درجة التأليه، يعترف بأشواقه الصاعدة وغرائزه الهابطة، يعترف به روحا وجسما، وعقلا وعاطفة، ذكرا أو أنثى، وفردا ومجتمعا. ويهيئ له فرصا للهو المباح، والترفيه البريء، كما يهيئ له المناخ الإيجابي ليحيا حياة إسلامية، بلا ضغط ولا تنازلات.
وهو لهذا يحافظ على الصحة الجسمية والنفسية والعقلية، ويخاطب كل إنسان: “إن لبدنك عليك حقا”، ويقاوم المسكرات والمخدرات، وسائر السموم المضرة بالأجسام والنفوس والعقول، ويرحب بالتربية البدنية، ويتخذها وسيلة لا غاية. ويفرض الرعاية الصحية الشاملة، وييسر لكل عامل حقه في الراحة، ولكل مريض حقه في العلاج، ويعلم الناس أن الله ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
5- إسلام يكرم المرأة، ويعتبرها إنسانا مكلفا تكليفا كاملا، له حقوقه، وعليه واجباته، ويرعاها بنتا وزوجة وأما وعضوا في الأسرة، وفي المجتمع، ويفسح لها المجال لتشارك في العبادة، وفي التعلم، وفي العمل، وخصوصا إذا احتاجت إليه، أو احتاج إليه أسرتها، أو احتاج إليه المجتمع، مع مراعاة ما تتميز به باعتبارها أنثى وزوجة وأما، تحتاج إلى توفير ضمانات خاصة لحمايتها ورعايتها، حتى من الزوج إن ظلم، والأب إن فرط، والابن إن عق وأساء، بشرط ألا يتعارض عملها مع واجبها في رعاية البيت والولد، كما يعطيها حقها في الإسهام مع الرجل في أعباء الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الشر والفساد {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (سورة التوبة: 70).
ويفسح لها مكانا، لتشارك في قضايا الأمة السياسية والاجتماعية والثقافية، ناخبة ومرشحة لكل ما تحسنه من الأعمال -فيما عدا الولاية العامة على الدولة- فهي نصف المجتمع، وأحد جناحيه، وإنما النساء شقائق الرجال. وهو -انطلاقا من احترام كرامة المرأة وإنسانيتها- يأبى أن تُتخذ أداة للإثارة واللهو، والاستمتاع الرخيص، ويوجب عليها -في ملاقاتها للرجال الأجانب عنها- الاحتشام والتصون، والتزام الأدب والوقار، في اللباس والتجمل والمشي، والحركة والكلام والنظر؛ حتى تعرف المرأة بجديتها؛ فلا تؤذى، وحتى لا يطمع الذي في قلبه مرض من الرجال.
6- إسلام يرى أن الأسرة أساس المجتمع، وأن الزواج هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا. ويرفض التقاليد الزائفة التي تصعبه وتؤخره، من غلاء المهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة، يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.
وهو إذ ييسر أسباب الحلال يسد أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين، على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، ويجيز الطلاق عند تعذر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، ويبيح الزواج بامرأة أخرى لمن يحتاج إليه، ويقدر عليه، ويثق من نفسه بالعدل، إذا قامت الدلائل على ذلك.
ويقيم العلاقة بين الأبوين والأولاد على وجوب الرعاية الكاملة، ماديا وعاطفيا وأدبيا، من جانب الأبوة والأمومة، ووجوب البر والإحسان من جانب البنوة. ووجوب الرعاية من المجتمع والدولة للأمومة والطفولة، وخصوصا الطفولة اليتيمة والمشردة. ويوسع الإسلام الأسرة، لتشمل الأرحام وأولى القربى، فصلتهم فريضة، وقطيعتهم كبيرة في دين الله.
7- إسلام يهتم بالتربية والتوجيه، مثل اهتمامه بالقانون والتشريع، بل قبل اهتمامه بالقانون والتشريع، فالقوانين لا تصنع المجتمعات، إنما تصنعها التربية المستمرة، والتوجيه العميق، وأساس كل نهضة وتغيير، هو بناء الإنسان ذي الفكر والضمير، ذي الإيمان والخلق، وهذا الإنسان الصالح هو أساس المجتمع الصالح. ولهذا يجب توجيه أبلغ العناية إلى المؤسسات التربوية من مدرسة الحضانة إلى الجامعة، بحيث تعلم الإيمان إلى جوار العلم، والخلق بجانب المهارة.
ومن أهم معالم التربية المنشودة للأجيال المسلمة: الالتزام بسلامة العقيدة من الخرافة، ونقاء التوحيد من الشرك، وقوة اليقين بالآخرة، واستقامة الأخلاق، من صدق القول، وإتقان العمل، ورعاية الأمانة والعهد، والصدع بالحق، ومعاداة الباطل، والنصيحة في الدين، والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله، وتغيير المنكر باليد وباللسان وبالقلب، حسب الاستطاعة، ومقاومة الظلم والطغيان، وعدم الركون إلى الظالمين، وإن كان معهم سلطان فرعون، ومال قارون.
كما يجب توجيه الاهتمام إلى المؤسسات الإعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية؛ فهي التي توجه الأفكار والأذواق والميول، وتقود الرأي العام إلى ما تتبناه، فيجب تنقيتها مما يجافي العقيدة، أو يلوث الفكر، أو ينحرف بالسلوك، وأن يكون توجهها لخدمة الأهداف الكبرى للجماعة، من خلال برامج مدروسة منتقاة، تبتعد عن الإثارة والتضليل، محورها: الصدق في الخبر، والرشد في التوجيه، والاعتدال في الترفيه، والالتزام بالقيم، والتكامل والتنسيق بين البرامج والأجهزة بعضها وبعض.
8- إسلام يقيم المجتمع على أواصر الإخاء والوحدة بين أبنائه، فلا مكان فيه لصراع الأجناس، ولا لصراع الأديان، ولا لصراع الطبقات، ولا لصراع المذاهب. فالناس كلهم أخوة، تجمع بينهم العبودية لله، والبنوة لآدم، “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد” واختلافهم واقع بمشيئة الله تعالى وحكمته، وهو يفصل بينهم يوم القيامة، فيما كانوا فيه يختلفون.
فهو إسلام يحترم غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، ويعتبرهم في ذمة الله، وذمة رسوله، وذمة المسلمين، أي في عهدهم وضمانهم، وهذا تعبير ديني، يعني لدى المسلم: أنه يتعبد لله تعالى، بالمحافظة عليهم، والدفاع عنهم، والبر لهم، والإقساط إليهم. فإن كان التعبير يؤذيهم، فليترك حرصا على شعورهم، والعبرة بالمسميات لا الأسماء. وهو يكفل لهم حرية الاعتقاد والتعبد، ويحافظ على دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، كما يحافظ على المسلمين سواء بسواء، ويحميهم من الظلم في الداخل، كما يحميهم من العدوان من الخارج، ويجعل لهم من الحقوق والحرمات في الجملة، ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، إلا فيما استثنى، مما له علاقة بالتميز الديني، ويضع من الضمانات المعنوية والمادية والقانونية، ما يكفل هذه الحقوق.
9- إسلام لا يعرف الكهانة، ولا توجد فيه طبقة كهنوتية، تحتكر الدين وتتحكم في الضمائر، وتغلق على الناس باب الله، إلا عن طريقها، عنها تصدر قرارات الحرمان، أو صكوك الغفران، إنما كل الناس في الإسلام رجال لدينهم، ولا يحتاج المرء فيه إلى واسطة بينه وبين ربه، فهو أقرب إليه من حبل الوريد. وعلماء الدين ليسوا إلا خبراء في اختصاصهم، يرجع إليهم كما يرجع إلى كل ذي علم في علمه، {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (سورة فاطر:14)، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة النحل:43).
ومن حق كل مسلم -إذا شاء- أن يصبح عالما دينيا بالدراسة والتخصص، لا بالوراثة، ولا باللقب، ولا بالزي، ولا احتكار في هذا ولا تحجير. فالإسلام يرفض التقسيم المستورد للناس والمؤسسات إلى ما هو ديني وما هو غير ديني؛ فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات؛ فكلها يجب أن تكون في خدمة الإسلام.
10- إسلام يؤكد حق الأمة في اختيار حكامها؛ فلا يفرض حاكم عليها يقودها رغم أنفها، يعتبر الحكام أجراء عندها، لها حق مراقبتهم ومحاسبتهم، كما عليها تقديم النصح والعون لهم، والطاعة في المعروف، فمن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة، ومن اعوج وانحرف، وجب أن يقوَّم بالنصح والإرشاد، وإلا فالعزل والإبعاد. والحكومة بهذا -وإن كانت إسلامية- ليست حكومة “دينية” بالمعنى الذي عرفه الغرب في العصور الوسطى؛ فهي دولة تقوم على البيعة والشورى والعدل، وتحتكم إلى قانون لم تضعه هي، ولا تملك تغييره، وليس قوامها “رجال الدين”، بل كل قوي أمين، حفيظ عليم، من الذين إذا مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
هذا الإسلام يرحب بكل ما كسبته البشرية، ووصلت إليه من خلال صراعها مع الطغاة والمستبدين، من صيغ وصور تطبيقية، تضمن حقوق الشعوب في مواجهة الحكام، وحرية الضعفاء أمام الأقوياء، من دساتير تفصل بين السلطات، وتحدد العلاقات، وبرلمانات منتخبة، وقضاء مستقل، وصحافة حرة، ومنابر حرة، وأحزاب معارضة، إلى غير ذلك، مما يتفق مع روح الإسلام ومقاصده الكلية، إن لم ترد فيه نصوص مباشرة جزئية.
11- إسلام يحافظ على المال، ويرى أنه قوام الناس، وعصب الحياة، وبغيره لا تتحقق عمارة الدنيا، ولا نصرة الدين، وهو نعمة يجب أن تشكر، وأمانة يجب أن تراعى، كما أنه اختبار وفتنة، ليبلو الله الناس فيما آتاهم، ولهذا يلزم كسبه وتنميته بالطرق المشروعة، وأداء الحقوق الواجبة فيه، والمحافظة عليه من السرف والترف والإهمال، وبخاصة المال العام، الذي له في الإسلام حرمة عظيمة، كحرمة مال اليتيم، وهو يحترم الملكية الخاصة، لكن يفرض عليها قيودا وتكاليف شتى، ويقاوم نزعتها إلى السيطرة والاحتكار، ويقودها بالتشريع والتوجيه لخدمة المصلحة الاجتماعية..
كما يعمل بكل قوة للتنمية الاقتصادية العامة للأمة، بحيث تستغل مواردها المادية، وتجند طاقاتها البشرية، وتتكامل فيما بينها – عربيا وإسلاميا – لتكتفي اكتفاء ذاتيا، وتنتج ما تحتاج إليه في مجالي الزراعة والصناعة، ولا تظل عالة على غيرها، وخصوصا في قوتها الضروري واليومي، وسلاحها الذي تذود به عن أرضها وعرضها ومقومات وجودها، والإسلام – هنا – يرى العمل للدنيا جزءا من الدين، كما يرى عمارة الأرض عبادة، وتنمية المجتمع فريضة، وتقوية الأمة مدنيا وعسكريا، جهادا في سبيل الله، والعمل على تحررها واكتفائها الاقتصادي، من أفضل القربات إلى الله؛ وبهذا يمنح الإسلام الأمة من الحوافز والتوجيهات والمناهج والمحركات المعنوية، ما يدفع عجلة التنمية إلى الأمام بقوة، وما يفجر الطاقات الكامنة في إنساننا، الذي هو هدف التنمية، وهو – أيضا – صانعها.
12- إسلام يعنى غاية العناية بالفئات الضعيفة في المجتمعات من العمال والفلاحين والحرفيين وصغار الموظفين، الذين هم عدة الإنتاج في السلم، والنصر في الحرب، يحفظ لهم حقوقهم بالمعروف من الأجور الكامنة، والضمانات الواقية، فمن كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله وحاجته معا. كما يرعى الإسلام العاجزين عن العمل، أو الذين لا يجدون تمام كفايتهم من أجر عملهم، من الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل، ويفرض لهم حقوقا دورية، وغير دورية “الزكاة، وما بعد الزكاة” في أموال الأفراد القادرين، وفي مال الجماعة من الغنائم والفيء وسائر موارد الدولة، ويعمل على تقريب الشقة بينهم، وبين الأغنياء، فيحد من طغيان الأغنياء، ويرفع من مستوى الفقراء، ولا يقبل في مجتمعه، أن يبيت فرد شبعان، وجاره إلى جنبه جائع، ويرى أن الدولة مسئولة مسؤولية مباشرة عن رعاية هؤلاء، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته.
13- إسلام يرى أن لا حرج على المسلم أن يحب وطنه ويعتز به، وأن يحب قومه ويعتز بهم، ما دام ذلك لا يتعارض مع حبه لدينه واعتزازه به، وبهذا لا يضيق صدره بالوطنية أو القومية، إذا لم يتضمنا محتوى يعادي الإسلام أو ينافيه كالإلحاد أو العلمانية، أو النظرة المادية، أو العصبية الجاهلية، ونحوها. ويتعاطف الإسلام تعاطفا خاصا مع العروبة المؤمنة، باعتبارها وعاء الإسلام، وباعتبار العربية لسان القرآن والسنة، ولغة العبادة والثقافة الإسلامية، وباعتبار العرب هم عصبة الإسلام وحملة رسالته، وباعتبار أرض العرب معقل الإسلام وحرمه، وفيها المساجد الثلاثة العظام، التي لا تشد الرحال إلا إليها في مكة والمدينة والقدس. فالإسلام بهذا يبني ولا يهدم، ويوحد ولا يفرق، ويقوي ولا يضعف، يدعو إلى وحدة الوطن وتماسكه، فوحدة العرب، فوحدة الأمة الإسلامية، سعيا إلى وحدة الإنسانية، وتضامنها في ظل مبادئ أخلاقية مشتركة.
14- إسلام يقابل الفكرة بالفكرة، والشبهة بالحجة، فلا إكراه في الدين، ولا إجبار في الفكر، فهو يرفض العنف منهجا، والإرهاب وسيلة، سواء وقع من الحاكمين أو من المحكومين، ويؤمن بالحوار الهادف البناء، الذي يتيح لكل طرف أن يعبر عن نفسه بوضوح مع الالتزام بالموضوعية وأدب الخطاب، الذي أشار إليه القرآن بقوله {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
15- إسلام يؤمن بأن الله خلق الناس مختلفين {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود: 118)، ولهذا يقدر الرأي الآخر، سواء كان في فقه الدين، أو في أوضاع السياسة، وأن الاختلاف رحمة وخير، إذا نشأ عن تعدد الرؤى والاجتهادات، وأن تعدد الأحزاب في النظام الإسلامي أمر مشروع في إطار أصول الإسلام وأحكامه القطعية، وكذلك تعدد الجماعات والحركات العاملة للإسلام، ما دام تعددها تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تضاد وتناقض، تعدد تكامل وتعاون، لا تعدد تنافر وتشاحن، وما دامت تقف صفا واحدا في القضايا المصيرية، متناسية خلافاتها الجزئية، ومادام محورها جميعا القرآن والسنة، وهدفها نصرة الإسلام، عقيدة وشريعة وأخلاقا، وشعارها: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا، فيما اختلفنا فيه.
16- إسلام لا يكتفي بالتغني بحضارته الزاهرة بالأمس، ولكنه يعمل على إبداع حضارة إسلامية معاصرة، تأخذ من حضارة اليوم أفضل ما عندها، من عناصر العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة والتنظيم، وتحتفظ هي بأصالتها وخصائصها، فهي حضارة تتصل فيها الأرض بالسماء، وترتبط فيها القيم الربانية بالمعاني الإنسانية، وتتجلى فيها أصالة الإسلام، وروح العصر، ويجتمع فيها العلم والإيمان، ويلتقي فيها الحق والقوة، ويتوازن فيها الإبداع المادي، والسمو الأخلاقي، ويتآخى فيها نور العقل، ونور الوحي.
حضارة تبرز فيها مقومات الإسلام وخصائصه، وتتجسد فيها أهدافه ومناهجه، في بناء الفرد، وفي تكوين الأسرة، وفي تشييد المجتمع، وفي إقامة الدولة، وفي توجيه الإنسانية إلى التي هي أقوم. حضارة متميزة عن حضارة المعسكر الشرقي المادية والإلحادية، وعن حضارة المعسكر الغربي النفعية العلمانية، حضارة لا تنتمي إلى يمين ولا يسار، بل تنتمي إلى الإسلام وحده، منه تستمد، وعليه تعتمد، وإليه تهدف، وبه تتحرك وتنطلق، وفيه تبرز.
وهي -مع تميزها- تؤمن بالتفاعل بين الثقافات، والحوار بين الحضارات، والتعارف بين الأمم، والإخاء بين بني الإنسان حيثما كانوا، ولكنها تأبى أن تذوب في غيرها، وأن تفقد أصالتها وتميزها، لهذا ترفض كل أنواع الغزو الثقافي، والاستلاب الحضاري، والتسلط الأجنبي، وتقاوم الأساليب الملتوية، التي يدخل بها غزاة اليوم، متنكرين في ثياب الإنسان، وهم يخفون تحتها أنياب السباع، وسم الأفاعي، وروح الشيطان!
17- إسلام لا يجعل أكبر همه التطبيق الظاهري للجانب القانوني في الشريعة، وبخاصة بجانب العقوبات فيه، من الحدود والقصاص، وإن كانت جزءا لا يجوز تعطيله من أحكام الشريعة. ولكن معركته الأولى ومهمته الكبرى السعي الحثيث لإقامة حياة إسلامية حقيقية، لا شكلية، حياة تعمل على إصلاح ما بأنفس الناس، حتى يصلح الله ما بهم، في ظلها يبنى الإنسان المؤمن، والأسرة المتماسكة، والمجتمع المترابط، والدولة العادلة، التي تتصف بالقوة والأمانة، حياة إسلامية متكاملة، توجهها عقيدة الإسلام، وتحكمها شريعة الإسلام، وتسودها مفاهيم الإسلام، وتضبطها أخلاق الإسلام، وتجملها آداب الإسلام.
حياة مجتمع متكافل متماسك كالبنيان يشد بعضه بعضا، لا يجوع فيه فرد، وجاره إلى جنبه شبعان، يتوافر فيها العلم النافع لكل جاهل، والعمل المناسب لكل عاطل، والأجر العادل لكل عامل، والغذاء الكافي لكل جائع، والعلاج الناجع لكل مريض، والمسكن الصحي لكل مواطن، والكفاية التامة لكل محتاج، والرعاية المادية والاجتماعية لكل عاجز، وبخاصة الأطفال والشيوخ والأرامل والمعاقون. كما تتوافر في هذه الحياة القوة على كل صعيد: القوة في الفكر، والقوة في الروح، والقوة في البدن، والقوة في الخلق، والقوة في الاقتصاد، والقوة في السلاح والإعداد، بجوار قوة الوحدة، والتماسك، وأساس ذلك كله، قوة الإيمان.
18- إسلام يرى أن المسلمين -حيثما كانوا- أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وأنهم إخوة، جمعتهم العقيدة الواحدة، والقبلة الواحدة، والإيمان بكتاب واحد، ورسول واحد، وشريعة واحدة، وأن عليهم أن يزيلوا كل العوامل المفرقة لجماعتهم؛ من الخضوع للعصبيات العنصرية والإقليمية، ومن التبعية للمناهج والأنظمة المستوردة: يمينية أو يسارية، ومن الارتماء في أحضان الولاءات المعادية لأمتنا: غربية أو شرقية، ومن اتباع الأهواء والأنانيات الحاكمة، التي تدوس مصالح الأمة الكبيرة، في سبيل مطامعها الصغيرة، ومكاسبها القريبة.
كما أن عليهم أن ينتقلوا بالتضامن الإسلامي القائم، من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، وأن يشدوا أزره، ويوسعوا نطاقه، حتى يصل إلى شكل سياسي من أشكال الاتحاد أو التكتل في عالمنا المعاصر، الذي لا يعيش فيه الصغير إلا في حماية الكبير، ولا تنجح فيه إلا الدول الكبرى. وأمتنا جديرة أن تكون كتلة كبرى، إذا استجابت لنداء ربها، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103).
وعلى المسلمين متضامنين أن يعملوا على تحرير “الأرض الإسلامية” من غاصبيها، على أن تبدأ كل جماعة بتحرير وطنها الخاص، يعاونهم المسلمون في كل مكان، وبخاصة جيرانهم وأقرب الناس لهم، حسب حاجتهم العسكرية، والاقتصادية، والبشرية، وعملهم في هذا من أفضل الجهاد في سبيل الله. ولفلسطين -خاصة- مكان في جهاد المسلمين اليوم؛ فهي أرض النبوات، ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلد المسجد الأقصى، وهي قضية كل مسلم حتى تتحرر أرضها السليبة، ويستعيد شعبها حقه، ويقيم دولته المستقلة.
_____________________________________________
(*) من كتاب “الإسلام كما نؤمن به.. ضوابط وملامح” للدكتور القرضاوي.