نتناول في هذه الحلقات الأسبوعية الرمضانية قيمة من قيام المسلم لله تعالى في شهر رمضان المبارك، نتحرى فيها ما يساعد على تحقق غاية الصيام والقيام والصلاة والصدقة والزكاة، أي تحقق التغيير الذاتي للفرد والمجتمع، فإن بعثة الرسل والكتب والعبادات والتشريعات والأحكام إنما جعلت جميعها من أجل تحقيق تلك الغاية (حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، ولا يتحقق ذلك إلا بقيام الإنسان لله تعالى خالصًا رغبته في تحقيق هذا التغيير المنشود نحو الهداية الربانية الكاملة.
أَداء الأمانة
نتناول في هذه الحلقة قيمة “أداء الأمانة”، نحاول أن نجيب عن المفهوم، ونرقب في ذلك الأمانة العليا للإنسان على الأرض، ومرتكزات الأداء المطلوب، والاستحقاق الكوني والاجتماعي فيها.
ما مفهوم “الأمانة”؟
الأمانة مصدر أمن، ومنه الأمن والإيمان والأمانة فهذه مشتقات ثلاثة من جذر واحد يشكل حالة المفهوم وسياقه القرآني لمفهوم الأمانة.
أما أصل الأَّمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويُجعل الأمان تارة اسمًا للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارةً اسمًا لما يُؤمن عليه الإنسان[1].
على هذا جاء مصدر الأمن في القرآن على ثلاثة وجوه: الوجه الأول: الطمأنينة والسكينة ويقابله الخوف والتوتر والقلق. والوجه الثاني: الإيمان ويقابله الكفر أو النفاق أو الشرك، والوجه الثالث: الأمانة بمعنى الحالة التي يؤتمن فيها الإنسان على شيء ما ويقابله الخيانة وعدم الأداء.
كما يرتبط معنى الأمانة بمعانٍ أخرى مثل العهد، والعقود، والمواثيق على اعتبار أنها تتطلب أداء ما فيها من شروط وحقوق، والوفاء بمتطلباتهما.
جاءت صور الأمانة في القرآن على وجوه عدة، أوصى القرآن بأدائها وتجنب خيانتها أو نكرانها، لكننا سوف نتوقف هنا عند الأمانة العليا التي تندرج تحتها كل الأمانات الموضوعة، وهي أمانة التوحيد وتجسيدها في الاستخلاف الإنساني على الأرض باعتبارها الأمانة الأولى التي حملها الإنسان ورضي بحملها ومطالب بأداء حقوقها
الأمانة الكبرى/ العليا.. “التوحيد”
جاء لفظة “الأمانة” مفردة في آية واحدة في سورة الأحزاب: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].
ذكرت روايات أن الأمانة المقصودة هنا هي الفرائض والحدود التي افتراضها الله على المؤمنين، بينما ذكر الراغب الأصفهاني في الأمانة هنا: كلمة التوحيد، والعدالة، والعقل. ورجح بها العقل الذي بحصوله يتحصل معرفة التوحيد وتجرى العدالة، بل بحصوله تعلُّم كل ما في طوق البشر تعلُّمه، وفعل ما في طوقهم من الجميل فعله، وبه فضَّل على كثير ممن خلقه.
لكننا نرى الخيار في “التوحيد” الذي منح الله العقل للإنسان من أجله، ومنحه الحرية، والاختيار وكل الوسائل المعينة من أجل حمل هذا المبدأ “التوحيد” الذي يتضمن الهداية والقصد والاستقامة، فإن من يملك التوحيد الحق من بني الإنسان يسخر العقل لتحقيق الهداية به، فالتوحيد مؤسس لهداية الإنسان، بينما العقل مكتشف لتلك الهداية.
ومن ثم فإن الأمانة المعروضة على السماوات والأرض والجبال والتي أشفقن من حملها وحملها الإنسان هي مسؤولية أمانة “التوحيد” وهداية الكون والعالمين بها، لأنها مهمة شاقة لا يتوافر لغير الإنسان العالم (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) الذي تأهل من قبل الله تعالى لحمل تلك المسؤولية.
كما تتحدد أمانة “التوحيد” التي عند الإنسان في تعبيد الكون له تعالى، واكتشاف سننه المقررة في الخلق والاجتماع، وتهيئة الإنسان لتحقيق الهداية فيه، وإشاعة الإصلاح في الكون، وهنا كما يقول السعدي: انقسم الناس -بحسب قيامهم بحمل الأمانة من عدمه- إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا.
إن أمانة “التوحيد” تتجسد في قيام الإنسان بأداء مهام ووظائف “الاستخلاف” على الأرض، وأعظمها:
الشعور بالمسؤولية الذاتية عن هداية الكون؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162]، و(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود:88].
العبودية لله سبحانه وتعالى: يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]. وفي ذلك نلفت الانتباه إلى أن مفهوم العبادة في القرآن مفهومًا كونيًا واجتماعيًا، وليس مختزلًا ولا فردانيًا، ولا شكلانيًا في طقوس وشعائر ومظاهر فقط، بل إن النشاط الإنساني –كله – يدخل ضمن مفهوم العبادة بشرطين أساسيين هما: أن يكون ذلك النشاط وفق سنن الخلق، وأن يكون المقصود به هداية الكون وعمرانه، فأي نشاط إذا توافر له الشرطان السابقان فإنه يعد في نظر الإسلام عبادة، ويدخل في ذلك الأعمال الاجتماعية، والسعي على المعاش، والأكل والشرب، والمعاملات السياسية والتجارية.
إعمار هذا الكون: يقول تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61].
جـ- نشر الأمن وعدم الفساد: يقول جل شأنه: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 85]، (وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف: 74].
تحقيق العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يقول جل شأنه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
هذا جانب من مسؤوليات الأمانة العليا التي على الإنسان أدائها في دوائر علاقاته الصغرى (ذاته وأسرته)، ودائرة علاقاته الوسطى (مجتمعه وأمته) ودائرة انتمائه الأكبر (الإنسانية والكون جميعًا).
__________________________________
[1] مفردات ألفاظ القرآن.
(*) أستاذ أصول التربية المساعد، جامعة دمياط، مصر.