لحظات من العمر، وذكريات من مفردات الأيام، عشتها في الريف اليمني، رأيت فيها الحياة بكاملها في وجهها الآخر، تحكي نقاء الهواء، وصفاء القلوب، وبساطة العيش، حيث تستقبلك على مشارف القرية تلك البيوت الحجرية القديمة والعريقة، ترى فيها القوة والجمال قد امتزجا معاً فكوَّنا تاجاً مهاباً، يزداد بهاؤه كلما اقتربت منه وتنقَّلت بين أقرانه، تماماً كتلك العمامة التي تعلو رأس رجال القرية وتتربَّع على نواصيهم، تدل على الرجولة المعهودة والعرف المُتوارث.
ومع أنفاس الصباح الأولى تبدأ الحيوية وتتحرك الحياة؛ فهذه نساء القرية على تناويرهن الطينية يجهِّزن الخبز الحار اللذيذ المعمول من الحبوب والذرة والمعروف باسم «الملوج والذمول»، وذلك الدخان المتصاعد الموحي بخفَّة الحركة وبداية الانتشار، وأولئك الرجال الذين يستعدون للذهاب إلى الحقول والمزارع بالبهائم، وما هي إلا أن تبسط الشمس خيوطها وتملأ الأرض فتزداد الحركة ويتسع النشاط، وتسمع أكثر من صوت وترى أكثر المواقف أصالة وبراءة.. فمن الأصوات ذلك الحداء الذي يردده الفلاحون في المزارع أثناء العمل، وغناء الصبايا ترعى الأغنام على الجبل، تختلط بأصوات الحيوانات المسخَّرة وكأنها تتبادل الأدوار مع أصحابها، فتضفي على الطبيعة صبغة ممتعة أخرى.
شعرت وأنا أرى وأسمع وأشم وأستمتع، بأننا لسنا في عصر التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات والحياة التي عرفتها في المدينة بكل تفاصيلها المختلفة تماماً عمَّا أنا فيه، وشعرت أيضاً بالعطش، فاستسقيت ماءً من أحد تلك البيوت الحجرية المتناثرة، فصوَّتت لي عجوز بالرحب والسعة وأشارت إلى جرَّة بجانب الباب الخشبي الأصيل، موضوعة بعناية ومرتبة المكان والسِقاء، عرفت لاحقاً أنها «سبيل»، وأن هذه عادة الناس جميعاً؛ يضعون الماء بهذه الطريقة على قارعة الطريق وأمام البيوت لكل محتاج يبتغون الأجر والثواب، أخذت القِدح وغرفت باستحياء يدل عليه عدم التعوُّد، والتوجُّس من طعم الماء، ولكني حين جرعت أول الدفعات أدهشتني حلاوة طعم ذلك الماء وأريحية برودته، مما دفعني للاستزادة، ومددت يدي لاستجلاب قدح آخر، فسمعت في الأثناء صوتاً ندياً ذو إحساس صادق، كان صوت فتاة ترفع عقيرتها بأغنية تدل كلماتها على المعاناة والمروءة معاً، تغنِّي بلهجتها القروية:
قولوا لمن خلّا الحياة كابوس عاد الهوى يشتي شرف وناموس(1)
شدَّتني تلك الكلمات وأبهرتني تلك النغمات، وعرفت بالحَدْس أن الفتاة تعاني ممن يتطلَّبها ويلحُّ ويأباه فؤادها، فقالت ذلك تذمُّ هوى الهائم بلجام الشهامة والعقل، وتدفعني للتفكُّر في حال المواقف المشابهة في المدينة مع الفارق الكبير، حيث أصبحت المدينة تعجُّ بما يمجُّه الذوق وتأباه الفطرة، إذْ تحوَّل الحب العذري إلى مجون، وليل الصبِّ إلى جنون، وبهذه المقارنة كدت أنسى نفسي وأدخل في مقارنات حياة الريف بما عرفته في المدينة، إلا أني تنبَّهت حين كاد القدح يسقط من يدي، فارتشفت بلذةٍ آخر الجرعات ممزوجةً بآخر ما سمعته من الكلمات، وما حملته من معاني، ثم وضعت القدح على الجرة، وغادرت خارجاً من القرية متوجهاً إلى المدينة، وقد عقدت العزم على العودة حين تسنح لي فرصة أخرى أوسع وقتاً لأستزيد من تلك الطبيعة وأصحابها: حكمة من شيخ، وصوتاً من فؤاد، ومعنى من مروءة، وشربةً من جرَّة.
___________________________
(1) البيت من الشعر النبطي الشعبي ومعناه: قولوا لهذا الذي جعل الحياة كالكابوس بسبب تصرُّفاته غير المهذَّبة، أن الهوى والحب بحاجة أيضاً إلى شرف ومروءة، تحجز صاحبها عن إظهار هواه بغير تهذب، وإصراره على حب من لا يحبه ولا يتطلع إلى أمثاله.
مقال منشور سابقًا منذ سنوات، وأعيد نشره بتحسين، وذكرى لحالٍ كيف كان وكيف أصبح اليوم في اليمن بمدنها وأريافها للأسف!