بداية، نسأل هذا السؤال البسيط: ما هو الحوار والنقاش؟
لا شك ما نعنيه بالحوار هو الحديث بين طرفين، وهو يختلف عن الجدال والسجال، والمعني بالحوار الحديث بين طرفين أفراداً كانوا أم كتلاً وجماعات، وحوارهم يكون حول أمور محددة تم حولها الخلاف فاتفق المتحاورون سعياً على اتفاق من خلال هذا الحوار والنقاش في هذا الموضوع أو ذاك للوصول إلى أرضية تنفع ويستفيد منها الجميع.
هكذا نفهم أن الحوار أصلاً قام من أجل مصلحة الجميع لا من أجل إثبات الحجة على هذا أو ذاك أو الحجة لهذا أو ذاك.
فمن أدب الحوار والمتحاورين أن يعلم كل طرف منهم أنه بشر، وأنه يجتهد ويخطئ ويصيب، وأهم من هذا وذاك أن يعلم كل طرف من أطراف الحوار أن كلاً منهم له ثوابت لا يمكن التنازل عنها أو تغييرها بسهولة، فلذلك يجب أن يفهم كل طرف من الأطراف أن هذه الأمور لا دخل لها أو بالأحرى لا ندخلها ضمن محاور النقاش، ويجب أن يسعى المتحاورون على تأجيلها ليس إلى الأخير ولكن إلى ما بعد الأخير، هذا في حال ضرورة التطرق لها، فخلط الأمور وعدم الحسبة للثوابت في الحوار والنقاش قد يكون سبباً في فشل الحوار والمتحاورين، ويتحول الحوار إلى جدل وسجال لا إلى حوار المقصود منه المصلحة العامة للجميع، بل سيكون هذا الجدال إلى فض الحوار وفشله ومن ثم عدم الوصول للمصلحة العامة التي يستفيد منها الجميع، ومن ثم الفراق بلا أي نتيجة إيجابية.
لا ينبغي أن نخلط بين النقاش والجدل، فالجدل حينها يخرج من إطار الحوار الإيجابي، ومن ثم نلاحظ فيه الطرح المتناقض الذي يولد التنافر وعدم الاتفاق، ومن ثم من الممكن أو غالباً ما تدخل الأهواء والأمزجة، ومن ثم انعدام المصلحة العامة، حينها يطرح كل طرف عكس ما يطرحه المقابل أو الطرف الآخر، وهذا يعني أنهم دخلوا في جدال لا نقاش من أجل المصلحة العامة، وسيؤدي هذا إلى التنافر والانتصار للذات، وهكذا يكون واجباً عقلاً وشرعاً إيقاف النقاش وتأجيله لتغيير الأسلوب وتدارك الأمر قبل التفاقم، ومن ثم الوصول إلى عدم الالتقاء وعدم الرجوع والنظر للمصلحة العامة.
وهذا الجدل فيه رفع الصوت حينها والمقاطعة، وأحياناً السخرية وما شابه، وفي النهاية لا نحصل إلا على التنافر والتباعد والعداوات وتوسيع هوة الخلاف بين الكتل المتحاورة هذه.
الله تعالى في كتابه العظيم بيَّن لنا هذه الفوضى الجدلية لنتحاشاها، قال تعالى: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (غافر: 5)، نعم إذا تغير الحوار إلى جدل تدخل الأهواء ويكون الباب مفتوحاً ومشرعاً للشيطان الرجيم.
وقال الله تعالى أيضاً مبيناً أن أصحاب السجال والجدل هم أقرب إلى الجهل أو بالأحرى لا يصل لهذا إلا من جهل! قال سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) (الحج: 8)، بل حتى وإن وصلنا في الجدل إلى ما هو من الثوابت أن نجادل بالتي هي أحسن.
أما الحوار فهو الرق، خصوصاً إذا ما كان في لطف وفي أدب وحسن اللفظ وطبيعة الصوت والكلمة والمفردة المنتقاة الجميلة والمعبرة، واحترام كل من الآخر ثوابت المقابل وعدم خدشها، واستعمال أو انتقاء أجمل اللفظ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكلمة الطيبة صدقة”، وفي الوقت نفسه كل المتحاورين يعلمون أن طبيعة البشر والإنسان الاختلاف، ولكن من الرقي اختلافه بلطف واختيار الأسلوب الأمثل والأفضل في بيان ما لديه هذا الإنسان دون تجريح المقابل، ومن قمة جمال الحوار أن تجد الجميع يسعى إلى نقاط الاتفاق بل وحتى صناعة تلك النقاط للاتفاق ليجعلوها هي الأرضية التي يقف عليها الجميع معاً للانطلاق للمصلحة العامة عموماً، نعم المصلحة التي تشمل الكل بكل أعراقهم وطيوفهم الفكرية والعرقية والاعتقادية والمهنية وغيرها.
ختاماً، من أغبى غباء النقاش حينما يتحدث مسؤول دون الشعور بالمسؤولية، ودون الشعور بما يخرج منه من تعابير وكلام يهدم فيه مؤسسته التي هو مسؤول عنها باسم أنه هو الأقوى والأكثر فهماً وحرصاً من غيره على هذا المكان أو ذاك أو هذا البلد أو ذاك، وما هو إلا معول لتدمير المجتمعات لعدم شعوره بمشاعر الآخرين.