تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، وإباحة زواج المسلم بغير المسلمة، بالرغم من إشباع العلماء هذه الشبهة بحثاً ودراسة، فإنها تُثار بين الحين والآخر، ويدور حولها تساؤلات ممجوجة.
يقول مثيرو هذه الشبهة: أليس حِرمان المرأة المسلمة من أن تتزوج الرجل الذي ترتاح إليه حتى وإن كان غير مسلم من الظلم البيَّن؟ وأليس من العنصرية أن نبيح للمسلم أن يتزوج من الكتابية في الوقت الذي نُحَرِّم ذلك على المرأة المسلمة؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
قضيَّة زواج المسلمة من غير المسلم، وخاصَّة الكتابيّ، رغم إجماع المسلمين سلفًا وخلفًا بكلّ طوائفهم ومذاهبهم على حرمةِ ذلك، وعدم انعقادِه أصلًا، ولم يخالف في ذلك إلا آحادٌ من شُذَّاذ الآفاق من مُدَّعي التنوير من المعاصرين، وعامَّتهم ممن لا يلتزم بقواعد الاستنباط ولا مناهج الاستدلال التي سار عليها علماء الإسلام، فلا يرفع للسُّنَّة رأسًا، ويضرب آيات القرآنِ بعضَها ببعض، ويترك المحكَم ويتَّبع المتشابه، كما هي طريقة الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواءِ.
حكم زواج المسلمة بغير المسلم
لقد ثبت تحريم زواج المسلمة بغير المسلم بالقرآن والسُّنَّة والإجماع على النحو التالي:
أولاً: القرآن الكريم:
– قال تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة: 221).
فالآية الكريمة تنهى الرجال عن الزواج بالمشركات، وتنهى أولياء المرأة عن تزويجها من المشركين، وهذا النهي الأخير عام غير مخصوص، يدخل فيه الكتابي وغير الكتابي، بخلاف الأول فإنه مخصوص بإباحة نكاح الكتابية، كما في آية المائدة: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (المائدة: 5)، وفي هذا قال ابن جرير رحمه الله:«يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تُنْكِحُوهنَّ أيها المؤمنون من المشركين، فإنّ ذلك حرام عليكم.. وعن قتادة والزهري في قوله: (وَلَا تُنْكِحُوا المشْرِكِينَ) قال: لا يحلّ لكَ أن تُنكِح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.. وعن عكرمة والحسن البصري قال: حرَّم المسلمات على رجالهم، يعني رجال المشركين(1).
وقال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذا إجماع: لا يجوز للمسلمة أن تَنْكِحَ المشرك(2).
وقال الإمام الفخر الرازي، رحمه الله: أما قوله تعالى: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) فلا خلاف هاهنا أن المراد به الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة(3).
وقال الإمام الشافعي، رحمه الله: «فالمسلمات محرمات على المشركين منهم بالقرآن، بكل حال وعلى مشركي أهل الكتاب؛ لقطع الولاية بين المسلمين والمشركين، وهذا ما لم يختلف عليه الناس فيما علمته«(4).
هكذا نرى أن علماء السلف والخلف لا يختلفون أن تحريم زواج المسلمة من المشرك عام لا يدخله تخصيص، ويشمل الكتابي وغيره، خلافًا للحكم الأول في الآية، فإنهم مختلفون هل يشمل عمومه الكتابيات أم لم تدخل الكتابيات فيه أصلًا؟
ومما يدل على أن الآية نصٌّ في المسألة: أن الفقهاء يستدلّون على حرمة زواج المسلمة من غير المسلم بها، قال ابن حزم رحمه الله: ولا يحل لمسلمة نكاح غير مسلم أصلاً، وبرهان ذلك: قول الله عز وجل: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)(5).
وقال السرخسي الحنفي رحمه الله: إذا تزوج الذمي مسلمة حرة فُرِق بينهما؛ لقوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى»(6)، فاستقر الحكم في الشرع على أن المسلمة لا تحل للكافر(7).
والأقوال في ذلك كثيرة، فعامة الفقهاء يستدلون على هذا الحكم المجمع عليه بالآية؛ مما يدل على أنها عامة للكتابي وغيره من سائر الكفار والمشركين.
ومما يؤكد ذلك أيضًا: أن الله تعالى جعل نهاية التحريم بزوال الكفر، فقال تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، فدل ذلك على أنه ما لم يؤمنوا فإن نكاحهم مُحرَم، ولم يختلف العلماء في أن أهل الكتاب المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم غير مؤمنين؛ لقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29).
ومن الأدلة القرآنية قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10).
قال القرطبي رحمه الله: أي: لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة(8)، وقال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة(9).
وكذلك قوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (النساء: 141)، فالآية الكريمة قطعت ولاية الكافر على المسلم بحال، ولا شك أن للزوج ولاية على زوجته، فيمنع من ذلك.
قال الكاساني الحنفي رحمه الله: لا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي؛ لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا)، فلو جاز إنكاح الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل وهذا لا يجوز(10).
ثانياً: السُّنَّة النبوية:
لقد ثبت في السُّنَّة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرَّق بين صحابيات أسلمن قبل أزواجهن، ومن أصحِّ ما ورد في ذلك: ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وقد كانت متزوِّجة من أبي العاص بن الربيع في الجاهلية، فلما أسلمت فُسِخ النكاحُ بينهما، ولحقت بأبيها صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم زوجها ردَّها النبي صلى الله عليه وسلم إليه(11).
ثالثاً: الإجماع:
لقد أجمع العلماء في القديم والحديث على حرمة زواج المسلمة من غير المسلم، والإجماع من أقوى الحجج الشرعية؛ فهو رافع للخلاف، ومانع من إحداث قول مخالف، وهو هنا إجماع قطعي لا خلاف في ثبوته، تناقله العلماء سلفاً وخلفاً.
قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي: «ولا يُزَوج كافرٌ مسلمةً بحال»: أما الكافر فلا ولاية له على مسلمة بحال بإجماع أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم(12).
وقال ابن مفلح رحمه الله: لا يجوز لكافر نكاح مسلمة، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وقال القرطبي رحمه الله: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام(13).
زواج المسلمة من الكافر يتنافى مع العقل والمنطق
الزواج في الإسلام يقوم على “المودة والرحمة” والسكن النفسي، ويحرص الإسلام على أن تُبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية، والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، فإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها، ولا يجوز له أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد، وهكذا يحرص الإسلام على توفير عنصر الاحترام من جانب الزوج لعقيدة زوجته وعبادتها، وفي ذلك ضمان وحماية للأسرة من الانهيار.
أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا، فغير المسلم لا يؤمن بنبي الإسلام ولا يعترف به، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبي الإسلام من افتراءات وأكاذيب، وما أكثر ما يشاع، وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها، وهذا أمر لا تجدى فيه كلمات الترضية والمجاملة، فالقضية قضية مبدأ وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية، وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرَّم زواج المسلم من غير المسلمة التي تدين بدين غير المسيحية واليهودية، وذلك لنفس السبب الذي من أجله حرَّم زواج المسلمة بغير المسلم، فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية، فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة في هذه الحالة يكون مفقودًا، وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية، ولا يحقق “المودة والرحمة” المطلوبة في العلاقة الزوجية(14).
فهل يدرك ذلك شُذَّاذ الآفاق من مُدَّعي التنوير؟
____________________________________
(1) بتصرف من تفسير ابن جرير الطبري – 4/ 370.
(2) تفسير البغوي – 1/ 256.
(3) مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي – 6/ 413.
(4) أحكام القرآن للإمام الشافعي رحمه الله – 1/ 189.
(5) المحلى لابن حزم – رحمه الله – 9/ 19.
(6) حديث حسن – رواه الدارقطني والبيهقي.
(7) المبسوط – المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت 483 هـ) – 5/ 45.
(8) تفسير القرطبي – 18/ 63.
(9) تفسير ابن كثير -8/ 121.
(10) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – المؤلف: أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي علاء الدين – 2/ 272.
(11) رواه الترمذي (1143)، وأبو داود (2240)، وغيرهما.
(12) المغني لابن قدامة – 7/ 27، والشرح الكبير على المقنع – 20/ 345.
(13) تفسير القرطبي – 3/ 72.
(14) شبهات حول المرأة المسلمة – المؤلف: علي بن نايف الشحود – 1/20.