في تصوري لم يلعب الإعلام المحسوب على الإسلاميين دورا مؤثرا في تعزيز القيم أو نقل الصورة المشرفة لرموز وقادة هذه الأمة التي تتلقي الضربات من كل اتجاه، اعتمادا على التطور الحاصل في مجال التكنولوجيات الحديثة، بسبب وجود وسائط التواصل الاجتماعي وغيرهما وما تلعبه من دور هام في نقل الصورة الحية عن أهمية إبراز حياتهم ومواقفهم وبعضا من بطولاتهم، في حين فعل الإعلام المناهض للمشروع الحضاري للأمة الأفاعيل بقيم المجتمع؛ فغالبية الأعمال الدرامية لاسيما في رمضان تنال بشكل كبير من جملة القيم المتبقية، وكان لها دور مؤثر في نشر الثقافة الهدامة في المجتمعات العربية، وإعلاء القيم المادية على القيم الروحية، فضلا عن إبراز نماذج مشوهة تشجع البلطجة، وتنمي الحس الإجرامي، يتزاحم الصغار على مشاهدتها!.
حينما غاب الفن الهادف، ولم يجد من ينبري له، وجد الفن الهابط مساحة كبيرة للحركة والنمو، وبات يؤدي دورا كبيرا في تربية المجتمعات وتنشئتها على العنف والأعمال الإجرامية في تجسيد واضح للنماذج السيئة في تلك المجتمعات، بشكل يصعب معه العلاج.
لعل أهم ما يميز العمل الفني أنه عابر للحدود والثقافات، يتجاوز الجغرافيا، ويستحضر التاريخ، ويساهم في حماية القيم الإيجابية بإبرازها وتسليط الضوء عليها، بأقل كلفة ، وأسرع وقت، وهو ما لا يدركه كثير من المصلحين حتى الآن!
فعمل درامي متقن، بإمكانه أن يرتقي بالفكر والثقافة، ويؤثر في الإحساس والمشاعر، بما يساهم في نهضة الأمة وتطوير حضارتها، ذلك أنه يجمع بين متعة التخيل والإثارة ، والتنوير والتجربة الجمالية.
أنى لنا برجل كمصطفى العقاد، يبدع في طرح قضيتنا للرأي العام العالمي، ويقدم مشروعنا للغرب بشكل حضاري موضوعي لا يخلو من رقي وإحساس، وقيم مبنية على أساس ، فيساهم بعدسات كاميراته في إزاحة الشبهات عن العرب والمسلمين الذين لا يجدون ما يدافعون به عن أنفسهم، في مجتمعات متربصة مشحونة بالعداء.
ربما لو لم يسلط ابن حلب الشهباء مصطفى العقاد عدسات كاميراته على المجاهد العظيم عمر المختار وينتج لنا فيلما يحكي سيرة الرجل ويظهر بطولاته لدفنت سيرة المحارب الكبير إلا بين شريحة محدودة من الناس .. فكم من شخصية مغمورة لم تأخذ حظها من الشهرة إلا من ناحية تناثر اسمها في بعض المناسبات والوثائق المغمورة أيضا.
شخصيات عظيمة لم تجد من يسلط الضوء عليها كشخصية بن زاوية المحجوب التابعة لمصراتة (رمضان السويحلي)؛ فالرجل جاهد جهادا عظيما، لكن المختار سلط الضوء عليه بعمل إعلامي كبير جعل من سيرته الطاهرة قيمة عظيمة نجتمع حولها على موائد التربية!
لقد زرت ليبيا أكثر من مرة، وعشت وتنقلت بين مدنها وقراها، وكانت أكثر فترات إقامتي ببلدة رمضان السويحلي وفيها سمعت الأساطير عن الرجل وحياته وجهاده ورأيت أكثر أهل البلدة يعظمون الرجل بطريقة صدمتني حقيقة، ذلك أن المختار عندي كان الرمز الأوحد لحركة الجهاد الليبي، لكني اكتشفت أن ليبيا زاخرة بالمجاهدين ، وما المختار إلا واحد منهم ، بيد أن الإعلام تناول سيرته بعمل متقن!
كان العمل السينمائي الذي ينوي العقاد إخراجه قبل وفاته فيلم عن (صلاح الدين الأيوبي) بعدما نجح في إبراز نموذج (حمزة بن عبد المطلب) في (الرسالة ) و(عمر المختار) بعيدا عن التشويه الذي أصابه في تجربة زميله يوسف شاهين، لكن لم يمهله القدر.
إلى جانب نموذج (العقاد) الرائد برز المخرج السوري (حاتم علي) كرائد من رواد الدراما التاريخية ، محاولا من خلال أعماله أن تصحيح الصورة المشوهة عن تاريخ أمتنا والمساهمة في صناعة الأمل في نفوس أبناء الأمة بما يدفع عنها التيه والتشرد الفكري والشعور بالضعف في وقت أصبح جزء كبير من شباب الأمة مولع بالغرب وثقافته، وقد تعرفت على المخرج السوري الراحل حاتم علي حينما زرت ليبيا في مطلع عام 2000م، حيث استوقفني في المدينة التي نزلت بها اختفاء الناس من الشارع وقت إذاعة مسلسل ( الزير سالم) ، فقلت في نفسي: لعله مسلسل متقن مثير ، وإلا لماذا أجمع الناس عليه، ولما شرعت في مشاهدته وجدت دراما راقية، ولغة عربية فصحى تشنف الآذان – مع قليل من الشوارد التي لا يدركها إلا البارعون في اللغة العربية – ووجدت وشعرا رقيقا مصحوبا بموسيقى تصويرية في الخلفية تدفع الأعجمي دفعا فضلا عن العربي لتذوق حلاوة العربية!
وبالبحث عن فريق العمل وجدت أن مخرج هذا العمل الجبار شاب سوري طموح يدعى حاتم علي ، هالني بعبقريته الفياضة ، وذكائه المتقد!
بعد هذا العام بعامين تقريبا شرع الرجل في إخراج مسلسل (صقر قريش) الذي يحكي عن تاريخ المسلمين في الأندلس بدءاً من نشأة الخلافة الأموية فيها، على يد عبد الرحمن الداخل، تلاه مسلسل (ربيع قرطبة)، و(ملوك الطوائف) فاستطاع بتلك الأعمال المؤثرة أن يغطي حقبة زمنية غاية في الأهمية من تاريخنا العربي والإسلامي ساهمت في تزويد الكسالى عن القراءة بمعلومات قيمة عن تراثهم وحضارتهم.
ثم كانت النقلة النوعية الكبيرة في حياة الرجل بإخراج مسلسل (عمر) رضي الله عنه الذي أبدع في كتابته الدكتور وليد سيف ذلكم الرجل العبقري الملهم ، ونتيجة للأداء المتقن على كل المستويات حاز المسلسل على نسب مشاهدة عالية للغاية في أنحاء العالم، وكانت بديلا بحق عن الغثاء الذي أفسد الذوق وأرهق الروح!
غير أن أفضل أعمال الرجل من وجهة نظري (التَّغريبةُ الفِلسطينية) والتي سبح بها الرجل ضد التيار، حين وضع يده في يد العبقري وليد سيف، وأنتجا أفضل ما أنتج في الدراما العربية حول القضية الفلسطينية، وفيه حفز الذاكرة العربية والإسلامية على تذكر الحقائق بعيدا عن الطمس الذي يبرع فيه الكيان الصهيوني، كما سلطا الضوء من خلال هذا العمل على معاناة الشعب الفلسطيني في حقبة زمنية هامة لا يعلم عنها كثير من المسلمين والعرب والتي امتدت ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي مروراً بالعديد من الأحداث الهامة، حتى نكسة يونيو عام 1967م.
نجح (حاتم علي) من خلال كثير من أعماله في البرهنة على أن إنتاج أعمال فنية خالية من القبلات والأحضان، والبلطجة، لا تمثل خسارة على المنتج، والدخول فيها لا يعد ضربا من الجنون، كما برهن على قوة الفن في إبراز القيم كونها وسيلة سريعة لتلميع الهدف، حيث خدم تاريخنا وحضارتنا وقيمنا العربية والإسلامية الأصيلة كما لم يخدمها قبله من العاملين بالدراما ، تغني خدماته عن قراءة مئات الكتب وآلاف المواعظ والخطب!
حالة مصطفى العقاد وحاتم علي ليست الأصل، فهي الاستثناء، ولا زال المصلحون في غفلة عن سلاح الإعلام بكل مشتملاته، والسينما والدراما على وجه الخصوص، وقد شاهدت مؤخرا مقطعا من مسرحية مصرية، فهالني ما رأيت من سخرية متعمدة لبطل من أبطال أمتنا العربية والإسلامية، وهو (سليمان الحلبي) الذي قتل (كليبر) وبدد أحلام الفرنسيين في مصر!