الإرهابيون المتطرفون يسجلون جرائمهم بالصوت والصورة ويتحدُّون العالم، وهؤلاء لا يستحيون من جرائمهم، ويعتبرونها قضية عادلة ونصراً مؤزراً، ومشروعاً مستحقاً، جرائمهم لا تخفى عن ذي عين وبصيرة، ولكن هل هم فقط الإرهابيون الحقيقيون؟ إن الأكثر جرماً منهم في الحقيقة هم من يستفيدون بتخطيط وإدارة مباشرة أو غير مباشرة لهؤلاء الإرهابيين، ويصنعون للإرهاب أسبابه، ويسهلون جرائمه، ويكيلون بمعايير مختلفة لتصنيفه، ولتحقيق أغراضهم الدنيئة، ومصالحهم التي لا يمكن أن يحققوها بمعادلة المنافسة الشريفة أو الاتفاق الملتزم أو التعاون المتساوي؛ لذا هم يختبئون خلف الإرهاب والإرهابيين لتحقيق مكاسبهم ومصالحهم، ولإرهاب خصومهم؛ بما هدد ويهدد حياة البشر الذين بنوا حياتهم على الشرف والإخلاص والجد والاجتهاد، فلا يعبؤون بحياة الناس ولا بقاء المدنية، ولا يهتمون باستقرار الأوطان، وإنما يؤججون الصراع، ويزرعون الفتنة، ويشعلون الحروب، وتمثل هذه الفئة دولاً ومؤسسات وشركات هي المستفيدة من تمدد الإرهاب وانتشاره، وتتكسب على نتائجه وصراعه واحترابه.
“بول كيندي”، مؤرخ أمريكي، يرى في كتابه «صعود وهبوط القوى العظمى»؛ أن بقاء وتمدد أي دولة عظمى إنما يكون بتوجيه طاقاتها نحو عدو مفترض؛ حتى لا تنشغل قوى المجتمع ببعضها، وهو يتوافق مع تنظيرات “هيجل”، الفيلسوف الألماني، التي تدعو إلى أهمية الحرب وبذل التضحيات حتى يصبح المجتمع قوياً من الداخل.
دراسات المفكر “هنتجتون” في “صدام الحضارات”، وكذلك “فوكوياما” الأمريكي في “نهاية التاريخ”؛ تستنتجان عدواً سُمي بـ “العدو الأخضر” وهو الإسلام، وإن سيادة قيم الليبرالية الغربية هي نهاية الإبداع البشري، وهذا تبعه تحديد عدو هو «الإرهاب الإسلامي»، ولإيجاد مسار جديد من الصراع في المنطقة العربية والإسلامية، وتم خلق حالة الحرب على الإرهاب منذ هزيمة الروس في أفغانستان عام 1989م، والصراع بين “القاعدة” والولايات المتحدة، والتي انتهت إلى أحداث سبتمبر 2001م، حيث بدأ بعدها “بوش” الابن بالحرب على أفغانستان والعراق، لتتوالد ردود الفعل وتنامي الإرهاب وتوسع دائرته، وخصوصاً بعد إسقاط نموذج الثورات العربية التي بدأت عام 2011م لتسقط مفاهيم الاعتدال والوسطية والديمقراطية، وليبدأ عهد جماعات الإرهاب، واستمرار الصراع المتبادل، خصوصاً وأن قرار إسقاط النماذج السياسية للثورات العربية أتى بدعم غربي ودولي، واستبداله بانقلابات عسكرية أو مواجهات عسكرية، وحملات إعلامية دولية وإقليمية ومحلية “شيطنت” الاعتدال، وأبرزت الإرهاب، بل إنها شرعنت لدول كالنظام السوري، ولمليشيات مجرمة من القيام بجرائم حرب ضد سكان المنطقة كما في العراق وسورية واليمن وليبيا، تلك المليشيات كالحوثيين وحزب الله وعشرات المليشيات الطائفية في العراق وحفتر ومليشياته في ليبيا.
وقد أكدت الإدارة الأمريكية أن هذا الإرهاب سيمتد لأكثر من 10 سنوات، وأسست تحالفاً دولياً لمواجهة ما سمي بـ «داعش» الذي لا يتجاوز عدد أفراده بضعة آلاف من المقاتلين، ويمتلكون أدوات حربية تقليدية، في حين أن التحالف الدولي ضد الإرهاب يمتلك مئات الآلاف من المقاتلين براً وبحراً وجواً، ويمتلك أحدث التقنيات والوسائل الحديثة، ومع هذا فإن «داعش» يمتلك مساحات من الأراضي تعادل دولاً مجتمعة، كما أن امتداده اتسع ليشمل دولاً مثل مصر وليبيا واليمن، ودولاً في أفريقيا، وعمليات في أوروبا آخرها عمليات بروكسل الأخيرة في مارس الماضي.
إن الحرب على الإرهاب تجسد جريمة «داعش» وأخواته ونظيراته، ولكنها بشكل أكبر وراءها مستفيدون كثيرون من تلك الحرب، منهم:
– اليمين المتطرف الأوروبي يستعيد مكانته انتخابياً وسياسياً.
– المحافظون الجدد في الولايات المتحدة متوثبون لإعادة مجدهم.
– مرشحون للرئاسة الأمريكية يقتاتون في حملاتهم الانتخابية على شعار «الحرب على الإرهاب»، بل إن مرشحاً مثل “ترامب”، مرشح الحزب الجمهوري، يتعهد بطرد المسلمين ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، ويريد من المملكة العربية السعودية أن تدفع ضريبة حماية! وهو ابتزاز سافل لمرشح متطرف.
– أما تجار الأسلحة السوداء فهم سعيدون بهذه الحرب، ويزودون كل الأطراف باحتياجات الصراع والاحتراب على حساب دماء الأبرياء.
– حتى المحطات الدولية العالمية والإقليمية وجدت فرحتها في إنتاج الأفلام والمسلسلات الخاصة بالإرهاب، والتي تدر ملايين الدولارات، وإبرام العقود التجارية والإعلانية بما يضخم ميزانيتها ومواردها.
– الشركات الأمنية العالمية من خلال الحرب على الإرهاب خلقت لها بيئة وحالة تنافسية لمبيعاتها وعروضها وعقودها الباهظة واخترقت سيادة الدول.
– ومثال على ذلك شركة “بلاك ووتر” ودورها المشبوه، فقد نشرت قناة “ديمكراسي ناو” الأمريكية على “يوتيوب” تقريراً حول التهم الموجهة إلى “إريك برينس”، مؤسس شركات “بلاك ووتر” التي تولت مهمة حراسة مواقع أمريكية حساسة في العراق، وقالت: إن “إريك” متهم هذه المرة بغسيل الأموال عبر استغلال الوضع في ليبيا، وقالت القناة، في هذا التقرير الذي ترجمته “عربي21”: إن “إريك برينس” قام بأدوار مشبوهة في ليبيا، فقد استغل الوضع الأمني ليعقد صفقات مع اللواء خليفة حفتر، الذي تعامل سابقاً مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، ومع الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، مستغلاً وجود الجماعات المسلحة في ليبيا والهجرة غير الشرعية نحو أوروبا.
– أما بعض الأنظمة السياسية التقليدية في المنطقة، فإنها أمنت من الضغط عليها مما يخلصها من التزاماتها في تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وهي فرحة بتعزيز ثقة الدول الكبرى بها في محاربة الإرهاب، لدرجة أن جريدة بريطانية وهي «الإندبندنت» تعنون أحد مقالات الكاتب «روبرت فيسك» أن العالم أصيب بالتخمة من «الحرب على الإرهاب».
إن نتائج الحرب على الإرهاب ونتائج مستثمري الصراع على الإرهاب كارثية على المنطقة؛ إذ إنها تعيش أزمة صراع بين دولها، وتزعزع أمنها بالفوضى، وخسائر في اقتصادها القومي والمحلي، واستمرار فقدان الأمن الاجتماعي، وانهيار الثقة بين المكونات الاجتماعية والعرقية، مما تؤسس لحالات التقسيم الديمجرافي، وخصوصاً أن سيلاً من الهجرات الديمجرافية تمت ومازالت تتم لتغيير ديمجرافي خطير يؤسس لحالات حروب قادمة على أساس طائفي وعرقي.
فالحرب على الإرهاب لم تصبح بين عدوين ظاهرين متحاربين، وإنما اتسعت لتشمل حالة التغيير الجيوستراتيجي والديمجرافي والاقتصادي في اتجاه الانهيار والتمزق وعدم الاستقرار.
وعلى الجميع أن يسأل: من هو المستفيد من الإرهاب؟ ومن يقف خلفه؟