محمد حلمي
تعدُّ العبادة بمثابة الغاية الكبرى في كلِّ رسالة إلهية؛ بحسب ما تفيد الآية القرآنية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} (الأنبياء: 25).
كما وصف بها سبحانه ملائكته المقربون، فقال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون} (الأنبياء: 19)، ونعتَ صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وقال أيضا: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (الفرقان: 63).
كما نعتَ بها أكمل خلقه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال في سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} (الإسراء: 1)، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال في حقِّ ملائكته: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون} (الأنبياء: 26).
وقال في الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } (النجم: 10)، وقال في الدَّعوة:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدا} (الجن: 19)، وقال في التحدِّي: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين } (البقرة: 23)، وقال في شأن عيسى عليه السَّلام: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيل} (الزخرف: 59)، و{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّه} (النساء: 172).
فالدِّين كلُّه داخلٌ في العبادة، يُقال: يدينُ لله ويدينُ اللهَ؛ أي يعبدُ الله ويطيعه ويخضع له. فالعبادة المأمور بها تتضمن غاية الذلِّ لله بغاية المحبَّة له. ولذلك كانت الصِّلة بالله صلة “عبودية”، وليست كذلك بالنسبة لصلات المسلم الأخرى: فصلتُه بالأنبياء صلة اهتداءٍ بهديهم واقتداءٍ بسيرتهم وطاعة لتعاليمهم ومحبَّةٍ لأشخاصهم وأخلاقهم، في حين أنَّ صلته بخالقه هي الصلة العليا التي تربو على كلِّ صلة أخرى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} (التوبة: 24).
يتضمن معنى العبادة في الإسلام إذن الدين والحياة من جهة، وكيان الإنسان ظاهره وباطنه من جهة أخرى. ولعل ذلك هو ما دفع بابن تيمية في رسالة “العبودية” لأن يضمِّنها – إلى جانب الشعائر المفروضة – ما زاد عليها من ألوان التعبُّد التطوعي من ذكرٍ وتلاوةٍ واستغفارٍ، ومن أخلاقٍ وفضائلَ إنسانية جامعة: كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من ضُروب العبادة المشهورة، ومن أخلاق ربانية عالية: كحب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه،…إلخ.
ولعل ذلك أيضا هو ما دفع تلميذه ابن قيم الجوزية في “مدارج السالكين” لأن يفصِّل مراتب العبودية وحظ القلب واللسان والجوارح والحواس منها في خمسين مرتبة موزَّعة عليها، مؤكِّدا أنَّ رُحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة، مَن كمَّلها فقد كمَّل مراتب العبودية “وبيانها: أنَّ العبودية منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح، وعلى كلٍّ منها عبوديةٌ تخصُّه. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومُستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهي لكلِّ واحدٍ من القلب واللسان والجوارح”.
وواقع الأمر أنَّ ابن تيمية أضاف إلى جميع ما سبق ذكره فضيلتين، أو بالأحرى فريضتين كبيرتين، بمثابة السِّياج لذلك كله، ألا وهما: الأمر بالـمعروف والنهي عن الـمنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى. على أنَّه ينحو في مواضع أخرى من مؤلَّفاته إلى عدم حصر الـجهاد في معناه الحربي فقط، أو الجهاد الأصغر، وإنما يعبِّر به عن معنى “الـجهاد الأكبر” تبعًا لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال فيه: ((رجعنا من الجهاد الأصغر [=القتال] إلى الجهاد الأكبر [=جهاد النفس])). وتبعًا لذلك يتسع معنى الجهاد في الإسلام ليشتمل على أنواع،أو أبعاد، أو جبهات أربعة هي:
أولا: جهاد أو مقاومة المحتل الغاشم الذي يبدأ بالعدوان.
ثانيا: مقاومة الحاكم الجائر، والاستيلاب المطلق للأنظمة الشمولية.
ثالثا: مقاومة كلّ تقليد من شأنه أن يؤدِّي إلى التبعية العمياء للآبائية.
رابعا: مجاهدة النفس، المعبَّر عنها في الحديث الشَّريف بـ”الجهاد الأكبر”.
وهذه الأبعاد الأربعة ترتبط ارتباطا مباشرًا بمفهوم العبودية لله عزَّ وجلَّ. وسنكتفي بالإشارة إلى ذلك على الصعيد الأول – الجهاد الأصغر (القتال)- إذ نلاحظ أنَّ الإسلام يأمر المسلمين بأن يأخذوا بالمسالمة العامة مع كلِّ الفئات المسالمة، من كلِّ الناس الذين يختلفون معهم فى المعتقد؛ وذلك عن طريق الأخذ بأسباب العدل، في معاملتهم وبالإحسان إليهم، مِصْداقا لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} (الممتحنة: 8)، أمَّا الذين يمارسون البغي والعدوان بالقتل والتشريد ومساعدة الأعداء، فلهم وضع آخر، يكشف عنه المولى عزَّ وجلَّ حين يقول: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} (الممتحنة: 9).
ونفهم من ذلك أنَّ الجهاد لم يُفرض على المسلمين إلا بعد أن طال بهم أمد الإيذاء من جانب المشركين، فنزلت الآية الكريمة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور} (الحج 39-41).
——
* المصدر: إسلام أون لاين