مع بداية العام الدراسي كل عام، يتبدى حجم الإنفاق المالي على التعليم، سواء ما تنفقه الحكومات أو الأفراد، من أموال طائلة، وجهود جبارة، وطاقات عالية، ذهاباً وإياباً بين المؤسسات التعليمية، وازدحام في الطرقات للوصول إلى المراكز التعليمة والرجوع منها، وجلبة ونشاط في كل بيت منذ طلوع الفجر للتمكن من الذهاب إلى المدارس، ومصانع ومتاجر لصناعة وتسويق وبيع أدوات الدراسة والأزياء الخاصة بها.. إلخ.
يعز على الإنسان أن تذهب كل هذه الجهود والنفقات على أمور دنيوية، حتى لو كانت هذه الدنيويات هي التعليم، كم يتمنى المسلم أن تكون هذه الجهود والنفقات جميعها في ميزان حسناته يوم القيامة.. فكيف السبيل إلى جعلها كذلك؟ يُعنى هذا المقال بالإجابة عن هذا السؤال.
العلم في ديننا معدود في جملة العبادات؛ فالقرآن والسُّنة كلاهما يثمن العلم، ويشيد بمكانة العلماء، ويعتبر التعلم فضيلة، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9)، وقال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18)، فبدأ سبحانه بنفسه، ثم ثنَّى بملائكته، ثم ثلَّث بأولي العلم، وقال عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(1)، وعن أبي أمامة الباهلي قال: «ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: «فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير دينكم الورع»(3)، وقال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»(4).
هل هذه الفضائل مقصورة على العلوم الشرعية؟
بعض هذه الفضائل خاص بالعلوم الدينية والشرعية؛ من تفسير وحديث وعقيدة وفقه وأصول.. ونحو ذلك، لكن منها ما يتعداها إلى كل علم نافع للبشرية، كما في الحديث المتقدم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»، فليس بين الإنسان وحيازة هذا الفضل سوى أن يستشعر أنه يعبد الله تعالى بالاستجابة لأمره بطلب العلم النافع.
أما العلوم الدنيوية البحتة، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام: علوم واجبة، وعلوم مستحبة، وعلوم جائزة، وعلوم مذمومة.
العلوم الواجبة:
ضبطها الإمام أبو حامد الغزالي بأنها كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد ممن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد (يعني: دخل عليهم الحرج والمشقة)، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين (أقول: وقد يحتاج البلد أكثر من واحد، فالمهم أن يوجد العدد الذي يكفي ويسد الحاجة المطلوبة).
قال: «ولا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجَّام (الذي يقوم بجراحة الحجامة، وهو نوع من الجراحة الخفيفة) تسارع الهلاك إليهم، وحَرِجُوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله(5).
والمقصود أن طلبة الكليات التي تخرّج الأطباء والمهندسين والمحاسبين والمدرسين، عليهم أن يتنبهوا إلى أنهم يقومون بواجب ديني، ويرفعون الحرج عن باقي الأمة في القيام بهذه التخصصات، فسعيهم وجهودهم وأموالهم ومذاكراتهم إنما هي عبادة، ومن نوى هذه النية وهو لا يزال في المراحل الأولى من التعليم، فإنما هو في عبادة، مأجور على ما يقوم به متى خلصت نيته.
وقد علق د. يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين السابق، على ضرب المثال بالطب والحساب فقط قائلاً: «وليس الطب والحساب فقط، فإنما قال هذا باعتبار زمانه، كما تحتاج الأمة في زمننا إلى الصناعات التكنولوجية المتطورة، وليس أصول الصناعات القديمة وحدها، فكل ما يؤدي إليها، ويعين عليها، فهو فرض كفاية على الأمة، حتى تكون سيدة نفسها، ولا تكون عالة على غيرها.
إن الغرب قد ساد العالم في عصرنا -ومنه العالم الإسلامي- بما ملك من علوم الدنيا، من الفيزياء والفلك والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا وغيرها، وأنشأ ثورة، بل ثورات في العلوم، ولا سيما في مجال الإلكترونيات والفضائيات والذرة والهندسة الوراثية وغيرها، وفي مجال الأسلحة والأدوية ونحوها.
وقد أدى انفصال الإيمان عن العلم في الغرب أن أصبح هذا العلم في الجانب العسكري خطراً يهدد العالم بأسلحة الدمار الشامل؛ النووية والكيماوية والجرثومية، كما أصبح مجالاً لصناعة أدوية غير مأمونة، بل غير مشروعة، يروجها أناس لا يخشون خالقاً، ولا يرحمون مخلوقاً.
وكذلك أمسى الناس يخافون من تطور علم «الجينات» وتقدم الهندسة الوراثية، والقدرة على استنساخ الحيوان، أن يدخل ذلك عالم الإنسان.
ولا علاج لذلك إلا أن يكون العلم في حضانة الإيمان، وأن يدور فلك القيم والأخلاق، وهذا ما يوفره الإسلام لأهله؛ حيث يوجب على المسلم أن يكون العلم نافعاً للناس لا ضاراً بهم، وقد استعاذ النبي الكريم من علم لا ينفع».
العلوم المستحبة:
وذكر الغزالي العلوم المستحبة فقال: «وأما ما يُعَدُّ فضيلة لا فريضة، فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يُستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة القَدْر المحتاج إليه» (إحياء علوم الدين 1/28، طبعة دار الشعب بمصر)، ويصدق هذا في زماننا على الطب التجميلي مثلاً.
والشاهد أن طلبة هذه الكليات الموغلة في التخصصات النادرة والكمالية لا يزالون في درج العبادة.
العلوم المباحة:
أما العلم المباح، فضرب له الغزالي مثلاً بالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، والعلم بتواريخ الأخبار وما يجري مجراه.
والأقرب في زماننا أن يمثل لها بعلوم فنون الطبخ بتفاصيله المسهبة، وفنون الذوق والجماليات، ونحو ذلك.
العلوم المذمومة:
وأما العلوم المذمومة، فأقرب ما يمكن أن تتمثل فيه علوم الرقص والسحر والشعوذة، وذكر الإمام الغزالي هنا: المذموم من العلم، ومثَّل له بعلم «السحر والطلسمات»، وعلم «الشعوذة والتلبيسات»، ومثل هذه العلوم لا تكاد تدرس في مدارس المسلمين.
الشاهد من تقسيم العلوم إلى الأقسام السابقة، أنَّ معظم العلوم إن لم تكن جميعها دائرةٌ بين الوجوب والاستحباب والجواز، فأما العلوم التي توصف بالوجوب والاستحباب، فمقتضى ذلك أنها داخلة في درجات العبادة، بل هي امتثال لأمر الله تعالى، فالأصوليون يعرّفون الحكم الشرعي بقولهم: «خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً»، والاقتضاء هو ما يشمل الوجوب والاستحباب، والتخيير هو ما يعني الأمور الجائزة.
تحويل الأمور الجائزة إلى عبادة:
وحتى الأمور الجائزة يمكن تحويلها إلى طاعة بفعلها بنية الطاعة؛ فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر»(6) (أخرجه مسلم)، قال القرطبي: فيه دليل على أن النيات الصادقات تقلب المباحات إلى الطاعات(7).
فالتلاميذ الذين يدرسون مبادئ القراءة والكتابة، فإنهم يضعون بذلك أرجلهم على أول طريق الواجب الكفائي؛ فبغير القراءة والكتابة لن نصل إلى ما وصل إليه غيرنا من تحطيم الذرة، وغزو الفضاء، وصناعة الحاسب الآلي والإنترنت والثورة التكنولوجية، وثورة البيولوجيا (هندسة الوراثة والجينات)، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات، وغيرها مما أمسى من خواصّ عصرنا.
ولن نصل إلى علوم الرياضيات، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم الأرض (الجيولوجيا)، والأحياء (الحيوان والنبات)، وعلوم البحار والصحراء، والتشريح ووظائف الأعضاء.. وغيرها.
_________________________________________________
الهوامش
(1) صححه الألباني، مشكاة المصابيح (1/ 74).
(2) حسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 144).
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 776).
(4) رواه البخاري عن عثمان بن عفان، رقم (5027).
(5) إحياء علوم الدين (1/ 16).
(6) أخرجه مسلم، رقم (1006) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(7) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 52).