يعد هذا السؤال من أكثر الأسئلة التي تحيك في صدور الشباب المسلم هذه الأيام، خاصة مع شراسة الحملات التشويهية للإسلام ورجالاته، ومحاولة إخراجه عن المضامين القرآنية والنبوية إلى فضاء من الهشاشة التي تجعله أشبه بعلاقة روحية خاصة بين العبد وربه، لا تنعكس في سلوك حياتي أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو محاولة لترسيخ مفاهيم الحرية والعدالة والإصلاح بين الناس.
بل إن من يتحدث بهذه المعاني يتم وصمه بـ”تسييس الدين”، وكأن الدين أصلاً يخلو من السياسة (بمفهومها العام لإدارة شؤون الناس ومعاشهم)، ويحاول آخرون تجريد الدين من كل شعائره ذات الانعكاس الاجتماعي (كما حصل في الحديث عن الأضاحي مؤخراً) لترسيخ مفهوم “خلو الدين من أي مظهر اجتماعي عام أو حتى اقتصادي”، والسعي الدائم لحشره في زاوية العلاقة الروحية والسمو النفسي والتصوف والانعزال عن الناس، وهذا من أخطر ما قد يحصل للفهم العام للإسلام.
هذه الحملات وانعكاساتها في المجتمعات –خاصة بين الأوساط الشبابية– جعلتهم في حيرة من أمرهم وتعاطيهم مع هذا الدين: أهو شكل من أشكال العادات والتقاليد المقيدة للحريات والتي يجب أن نكسرها ونتجاوزها لما لها من أثر في تخلفنا عن ركب الحضارة والتقدم؟
أم هو موروثات عن أهل السلف الصالح التي كانت تصلح لإدارة معيشتهم –البسيطة والسهلة– ولا يمكنها التعاطي مع حياتنا الأكثر تعقيداً؟
أم هو حالة من التابوهات القديمة والأفكار الغيبية التي ليس لها أي مساس في واقعنا وعلينا دحضها باستخدام العقل والمنطق؟
أم هو دين شامل عام ومتكامل كما يقول عنه الدعاة والعلماء والمصلحون، وما يجري عليه من حملات إنما هي دلالة صلاحيته وقوته ومدى تأثيره إن تم ترسيخ تطبيقه على المستوى الفردي والأسري والمجتمعي والدولي، فيعيد الحق لأصحابه ويأخذ على يد أصحاب الفساد والظلم والاستبداد؟
هذه الحيرة العاصفة تدفعنا –معاشر الدعاة والمصلحين والمثقفين– لإعادة إحياء هذه المعاني -مرة بعد أخرى– بين الشباب والتأكيد عليها دوماً؛ لتكون أساساً ومدماكاً يبنون عليه صروح أفكارهم الإبداعية في نصرة الإسلام وأهله، وليكونوا خير خلف لخير سلف قدموا لخدمة دينهم، وصدق النبي –صلى الله عليه وسلم– فيما يرويه الإمام مسلم “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء”، وفي رواية مرسلة عن التابعي بكر بن عمرو المعافري “فطوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفأ”.
ويمكننا أن نضع بين أيدي الشباب عددا من المعالم في طريقهم لإدراك معنى انتمائهم لهذا الإسلام العظيم، وذلك على النحو التالي:
المعلم الأول: أن يدرك المسلم –ابتداء– غاية وجوده الكبرى وينطلق منها في تفسير كل ما يرى من ظواهر وتحولات وتقلبات وصراعات بين البشر، وهي التي حددها الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته من قبل خلقهم، وهو يتحدث عن الملائكة حين قال في الآية 30 من سورة “البقرة”: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30).
وهذه الخلافة التي نالها آدم –عليه السلام– وذريته من بعده كرامة وجودية لهم، والتي من معانيها لغة النيابة (أي أناب عنه وحل محله)، فهي شكل من أشكال تحميل هذا الإنسان مسؤولية إدارة شؤون هذه الأرض، ببشرها وحجرها وشجرها ودوابها ومعادنها، وفق ما يريد خالق الخلق وصاحب الأمر جل جلاله، ثم المساءلة عنها وعن مقتضياتها يوم القيامة.
وبهذا المعطى اقتضت الخلافة محورين مهمين:
1- محور العلاقة مع الله: الذي تناولته الآية الكريمة من سورة الذاريات (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والعبادة هنا تعني الائتمار بما يأمر به الله والانتهاء عما ينهى عنه، وإعلان الافتقار والتذلل بين يديه والاستعانة به في كل أمر وفي كل حين، كما نردد في فاتحة الكتاب (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
2- محور العلاقة مع الكون: الذي تناولته عدد من الآيات، منها على لسان نبي الله صالح –عليه السلام– (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)؛ أي طلب منكم عمارتها حق العمارة، بما يحقق النفع للبشرية ودون إخلال بمنظومة الكون واتزانه.
وهذا الإدراك حال تحصله يضبط فهم الإنسان وبوصلته في سيره في هذه الحياة؛ فلا يظن نفسه أنه سيد هذا الكون ليفعل به ما يشاء دون العودة لما أراده الخالق، أو يظن نفسه أنه خالد مخلد فيها دون حسيب أو رقيب، مصداقاً لقوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115).
المعلم الثاني: إن أدرك المسلم غاية وجوده الابتدائية انطلق نحو فهم الإسلام (الدين المهيمن على كل ما سبقه من شرائع سماوية) بصيغته الشمولية التي أرادها الله تعالى، ليدرك أن دين الإسلام –كما يقول الإمام القرضاوي حفظه الله– يقوم على ضبط:
1- علاقة الإنسان بخالقه: بإخلاص العبادة له وديمومة الاستعانة به.
2- علاقة الإنسان بنفسه: بتزكية الروح وتنمية العقل وتدريب وحماية الجسد وإذكاء العواطف والوجدان.
3- علاقة الإنسان بغيره والكائنات الحية: بضبط التشريعات الناظمة للعلاقات، وما يترتب على ذلك من أبعاد قضائية لفك النزاعات، مما يرسخ مبدأ تلازمية الحقوق والواجبات، وانعكاسات ذلك في مختلف مظاهر الحياة.
4- علاقة الإنسان بالجمادات: استثمارا للموارد بما يحقق حالة التعمير الواجب، مع الحرص على التنمية المستدامة لها، وتطوير كافة المخرجات بما يتناسب مع متطلبات الرفاه المناسب.
المعلم الثالث: إدراك المكان والزمان اللذين يعيشهما المسلم إدراكا حقيقيا، يجعله يتعامل بواقعية مع الآمال والطموحات، ويردم الهوة بين المأمول والممكن، ويملّكه الأدوات التي من خلالها يستطيع أن يؤثر بمن حوله ويتفاعل معه، ويهيئ له الفرص الإيجابية التي تمكنه من العمل على الإصلاح والتغيير في أسرته ومجتمعه ووطنه، ويبحث عن عناصر القوة الكامنة في عصر المعلومات ويتفاعل معها بكل جدارة واحتراف، وصدق الله حين وصف أولي الألباب بقوله في سورة آل عمران: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران: 191).
المعلم الرابع: أن يدرك المسلم أن عدوه الإستراتيجي الذي يريد الإيقاع به في كل لحظة وحين هو الشيطان، مصداقا لقوله تعالى في سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6)، وهذه العداوة تتجلى دائما في تزيينه لما حرم الله وتلاعبه بالشهوات والمحبوبات في غير ما يرضي الله، وإثارته –عبر أعوانه من العلمانيين والدهريين– لمختلف الشبهات التي قد تعكر من صفو عقله وقلبه، ناهيك عن المؤامرات التي يحيكها مع أعوانه من شياطين الأنس للصد عن سبيل الله وهضم الحقوق وخطف الحريات وإهلاك الحرث والنسل، ما يدفع المسلم إلى زيادة قربه من الله وزيادة علمه وثقافته لكي لا يسمح لأي شبهة أن تعكر عليه عقله، ويعمل أيضا على زيادة قوته لكي يدافع عن دين الله “والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”.
المعلم الخامس: أن يسعى لتوحيد الجهود وتطويرها مع كل من يشاطره الهم والهمة في خدمة دين الله، ولا يظن نفسه أنه قادر لوحده؛ فالتكليف فردي والحمل للجماعة، وصدق الله حين قال في سورة التوبة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71)، والأعمال كثيرة والمجالات متعددة، منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والإغاثي والتعليمي والثقافي والصحي والعسكري والثوري وغيرها.
والبحث عن رايات الخير في هذه الأمة واجب؛ فالعمل الجماعي المنظم أنجع وأكثر فائدة، فمع اختلاف أشكاله إلا أن المنطلقات واحدة وهي خدمة دين الله، لذا وجب على المسلم أن يبحث عن أكثرها شمولية وأغزرها تجربة وأوسعها نشاطا وأرحبها فضاء، ولا يلتفت إلا دعاوى الجاهلية المشوهة لبرامج الدعوة، فلولا أنها معكرة عليهم فسادهم لما حاربوها (وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {2} الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم).
المعلم السادس: أن يضبط سلوكه وأخلاقه وتصوراته ضمن قيمه العليا، فهو ينطلق ابتداء من القرآن الكريم الذي يعلم أنه (يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)؛ فيعيد أقواله وأفعاله إلى هذا الصراط، ثم يعلي مقام قيمه في حياته: فلا يحب ولا يكره ولا يصادق ولا يعادي إلا بناء عليها، متخلقا بأخلاق النبي الكريم عليه السلام الذي وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنه “كان خلقه القرآن”.
__________________________
(*) المصدر: موقع “بصائر”.