يحل شهر رمضان المبارك هذا العام بغياب قامة علمية كبيرة، ارتبط اسمها بالشهر الفضيل والعيدين؛ الفطر والأضحى، إنه العم صالح العجيري الذي كان بمثابة المبشر بقدوم الهلال والمرجع في تحديد مواقيت الأهلة وبداية المواسم والفصول.
رحل العالم الفلكي العم صالح العجيري في العاشر من فبراير الماضي عن عمر ناهز 102 عام، بعد حياة حافلة بالعطاء والإنجاز، فهو يعد من أهم علماء الفلك والرياضيات في الكويت ومنطقة الخليج؛ إذ ذاع صيته في المنطقة كأبرز مرجع في علوم الفلك، واعتمد تقويمه في الكويت منذ بدئه عام 1952م، واستمر في الصدور حتى اليوم.
ساهم العم العجيري يرحمه الله تعالى بصورة كبيرة ومباشرة في وجود مرصد فلكي في دولة الكويت سمي باسمه، ليكون مقراً دائماً للمهتمين بعلم الفلك من المتخصصين والهواة والباحثين.
وتحفل مسيرة الراحل بمحطات كثيرة طلباً للعلم؛ إذ قام بزيارة العديد من الدول العربية، منها مصر حيث نال شهادة التخصص في علوم الفلك من الاتحاد الفلكي المصري عام 1952م، كما زار عدداً من الدول الأجنبية للاستفادة من علومها المختلفة كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وسويسرا وألمانيا وفرنسا، إضافة إلى مشاركته في العديد من المؤتمرات العلمية المتخصصة بالعلوم والفلك.
ثروة وقدوة
تحدثت «المجتمع» إلى عدد ممن عرف الراحل عن قرب، مستذكرين مآثره باعتباره عالماً كبيراً، وأحد رموز علم الفلك في الكويت والعالم العربي، مؤكدين أن إسهامات الراحل ومؤلفاته ستبقى نبراساً ملهماً للأجيال.
فمن الناحية الاجتماعية، قال النائب السابق في مجلس الأمة الكويتي د. ناصر الصانع: إن الراحل العجيري لم يكن شخصاً أنانياً ووحدانياً، بل كان اجتماعياً لا يفوت مناسبة إلا ويحضرها، ويكون أول الحاضرين رغم ظروفه الصحية.
وأضاف: كانت مجالسه معنا يطرب لمتابعتها الصغير والكبير، وكان يستذكر مآثر والده كدروس في الإيثار والنخوة والكرم والعطاء والمرجلة، كان يرويها بروح لا تخلو أبداً من الطرافة؛ الأمر الذي يجعلها ثابتة في أذهاننا وعبرة لمن يستمع إليها.
وأشار الصانع إلى أن الراحل كان في جلساته بليغاً بالتعبير عن أي مناسبة اجتماعية يتقدم للحديث فيها.
وذكر أن الراحل كان نموذجاً للزوج الوفي، وكانت زوجته تصاب بمرض لا يسمح لها فيه أن تغادر سريرها؛ فكان يرعاها بنفسه.
إلى جانب وفائه لعدد من الديوانيات التي كان يزورها كديوانية برجس حمود البرجس بالشويخ، وديوانية الجارالله عند العم أحمد الجارالله بالضاحية.
ووصف الصانع الراحل العجيري بأنه ثروة وقدوة في تواضعه وتبسطه لطرحه آراءه العلمية المعقدة سواء من خلال وسائل الإعلام أو من خلال تواصله مع أجيال الشباب في المدارس، فهو في سنواته الأخيرة كانت له زيارات يومية للمدارس يلتقي فيها بالطلبة يحدثهم عن علم الفلك.
أما من الناحية العلمية، فذكر الصانع أن خاله الراحل العجيري مدرسة تتحرك بالفكر والعطاء والخلق والعلم، لديه إنتاج كبير وكتب متعددة في الفلك، فهو لا ينفك عن الحسابات الفلكية، وكان أهل الكويت يعتمدون عليه في تحديد مواقيت الأهلة، وتقويمه من أشهر التقويمات المعتمدة في البلاد.
أما عن دوره الخيري، فقال الصانع: بعد وفاته رحمه الله تعالى، بدأنا نسمع عن إنفاقه الخيري، فقد تبرع بمشروع مجمع كبير في إندونيسيا عن طريق جمعية الرحمة العالمية، وكان ذلك مفاجأة لنا.
أول واضع للتقويم الهجري
من جهته، وثق رئيس اتحاد الجمعيات والمبرات الخيرية د.عبدالمحسن الجارالله الخرافي مآثر أهل الكويت الطيبين الراحلين، في كتابه «مُربّون من بلدي»، فقال عن الراحل العجيري: شغف منذ صغره بعلم الفلك، وقد بدأ هذا الشغف حينما أرسله والده إلى البادية ليتعلم الفروسية والرماية؛ ومع الفروسية والرماية تلقى أول درس في علم الفلك؛ وهو التعرف على الجهات الأربع.
وأشار الخرافي إلى أن العجيري بدأ في أوائل السبعينيات بإنشاء مركز فلكي على نفقته الخاصة؛ حيث اشترى قسيمة أرض مساحتها ألف متر مربع في الزاوية الجنوبية الغربية من منطقة الأندلس، وبدأ في بناء المركز.
وتابع: في عام 1973م توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لشراء القبة الخاصة بالمرصد، كما قام بشراء تلسكوب وبعض الأجهزة الفلكية اللازمة للمركز، ثم توجه بعد ذلك إلى المملكة المتحدة وقام بشراء مقياس للضغط الجوي ومقياس للمطر ومقياس للرطوبة وسرعة الرياح وغير ذلك.
وزاد الخرافي: تبلورت بعد ذلك فكرة إنشاء مركز علوم الفلك والأرصاد الجوية بالنادي العلمي في مقره الجديد بمنطقة مشرف، ووجه العجيري جهده مع جهود النادي من أجل إنشاء هذا المركز الكبير، تاركاً المركز الذي أعد لإنشائه في منطقة الأندلس، وهكذا تحقق أمله في بناء مرصد كبير لمنطقة الخليج هو «المركز العلمي لعلوم الفلك والأرصاد الجوية».
وذكر الخرافي أن إسهامات العجيري في مجال خدمة المجتمع وإنجازاته في خدمة العلم يمتد أثرها إلى خارج الكويت.
ولفت إلى أن العجيري كان في مقدمة العلماء والخبراء الذين وضعوا أسس توحيد الشهور القمرية في البلدان الإسلامية، وهو أول واضع للتقويم الهجري الموحد؛ بتكليف من لجنة التقويم المنبثقة عن مؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية للبلدان العربية.
من جانبه، ذكر مراقب التنبؤات في إدارة الأرصاد الجوية عبدالعزيز القراوي أن علاقته مع الراحل العجيري بدأت منذ عام 2015م، مشيراً إلى أن العلاقة كانت بمثابة الأب مع أبنائه.
وأضاف القراوي أن الراحل العجيري لم يكن كلامه يخلو من الاستشهاد بالآيات القرآنية والأبيات الشعرية، وكان على مستوى عالٍ من الحكمة والهدوء والسكينة.
وتابع أنه نهل من علم الراحل بما يتعلق بعلم الأرصاد والتغيرات الجوية مثل مواسم الطقس والفترات التي تنقسم إليها هذه المواسم، والرابط بين التغيرات الجوية وبعض النجوم.
ولفت القراوي إلى أن الراحل كان حريصاً على التواصل وتقديم النصائح والتوصيات، ويتابعني عندما أقدم النشرة الجوية في «تلفزيون الكويت».
ونال الراحل الكثير من الجوائز؛ نظراً إلى إسهاماته العديدة والمتميزة في مجالات العلوم والفلك، مثل الدكتوراة الفخرية في العلوم من جامعة الكويت عام 1981م، وقلادة مجلس التعاون للعلوم عام 1988م، وجائزة الدولة التقديرية عام 2005م، وعضوية الشرف في الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك عام 2000م، إلى جانب العديد من الجوائز المحلية والعربية.
وقد كان لمجلة «المجتمع» شرف اللقاء مع العم العجيري في حوار خاص في يوليو 2014م حول ذكرياته في شهر رمضان قديماً.