عاد الزعيم البرازيلي الكبير لويس إيناسيو لولا دا سيلفا لرئاسة البرازيل بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية البرازيلية بفارق طفيف للغاية، فقد حصل على 50.89% من الأصوات مقابل 49.11% حصل عليها غريمه، الضابط السابق في الجيش البرازيلي جاير بولسونارو، وهو ما يزال في سدة الرئاسة.
من هو لولا دا سيلفا؟
لولا دا سيلفا، سياسي برازيلي يتمتع بشخصية كاريزمية قوية، ولد في ولاية بيرنامبوكو، في شمال شرق البرازيل، لوالدين معدمين يعملان في الزراعة، ولا يستطيعان إطعام أطفالهما الثمانية.
انتقلت والدته وأشقاؤه السبعة وهو في سن السابعة إلى ولاية ساو باولو بحثًا عن حياة أفضل، مكثوا أولاً في مدينة سانتوس الساحلية لمدة 3 سنوات، ثم انتقلوا إلى عاصمة الولاية، مدينة ساو باولو وهي المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الولاية.
أجبره الفقر المدقع على ترك المدرسة ليعمل في تلميع الأحذية، وهذا سبحان الله! ما حدث مع أسطورة كرة القدم البرازيلية، بليه، ولكن دا سيلفا حصل لاحقًا على وظيفة في مصنع، وفي المصنع قطع إصبعه الخنصر ليده اليسرى في حادث عندما كان في السابعة عشرة من عمره.
رحلته من قاع الفقر لقمة الزعامة
بدأ دا سيلفا حياته المهنية في النشاط النقابي في أوائل العشرينيات من عمره، وفي الخامسة والعشرين، فقد زوجته لورد التي كانت حاملاً في شهرها الثامن بسبب التهاب الكبد الوبائي، ولكنه واصل عمله كقائد عمالي نقابي، وفي عام 1975 انتخب رئيسًا لنقابة عمال المعادن، وهي من النقابات القوية في البرازيل.
نظم الزعيم دا سيلفا عدة إضرابات متحدياً الحكومة الدكتاتورية العسكرية البرازيلية، واستطاع أن يعزز صورته كرمز للديمقراطية والحركة العمالية، ما أدى إلى مقارنته بالزعيم العمالي البولندي الأيقوني ليخ فاليسا.
قائد المد الوردي
في عام 1980، أسس الزعيم لولا دا سيلفا مع مجموعة من العمال والمثقفين والفنانين حزب العمال تحدياً للنظام العسكري الدكتاتوري المحتكر لحكم البرازيل آنذاك، وهو حزب جبهوي تعددي ضم نقابيين ومثقفين وفنانين وممارسي ما يسمى “لاهوت التحرير” وغيرهم.
ترشح للرئاسة 3 مرات قبل أن ينتخب في عام 2002، ليصبح جزءًا من المد الوردي “اليساري” في أمريكا اللاتينية.
وفي خلال فترة حكمه، شهدت البرازيل طفرة اقتصادية، وما زال البرازيليون يذكرون الفترة التي قضاها في المنصب بسبب برامج الرعاية الاجتماعية الضخمة التي ميزت فترته وانتشلت الملايين من قاع الفقر والبؤس إلى الحياة الكريمة.
فخ صندوق النقد الدولي
وصل دا سيلفا لرئاسة البرازيل الأولى بعد سنوات عجاف من الأزمات والمشكلات التي كان يعاني منها الاقتصاد البرازيلي، كانت البرازيل غارقة في الديون لحد الإفلاس، قبل عام 2003 كانت مدينة بـ250 مليار دولار، وتعاني من شروط صندوق النقد الدولي المجحفة من أجل الحصول على قروض جديدة، هذا غير البطالة والأمية وانتشار المخدرات والجرائم.
في البداية، رضخ دا سيلفا لشروط صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 30 مليار دولار، وقام بالإصلاحات الاقتصادية المشترطة من الصندوق، ولكنه اكتشف بعد سنوات من تنفيذ خطة الصندوق الجديدة أن هذا الصندوق هو بيت الداء، وأن كل القرائن والدلائل تشير إلى تدهور جديد في حالة الاقتصاد البرازيلي، وأن الوضع يزداد سوءاً.
“لا” لصندوق النقد
عندها أطل دا سيلفا على شعبه من جديد بحزمة إصلاحات، منها خروج البرازيل من عباءة صندوق النقد الدولي، وجاء دا سيلفا باقتراحات جديدة، كان من أهمها: تشجيع التصنيع، وزيادة الإنفاق على القطاعات الاقتصادية، وسياسة إحلال الواردات بالإنتاج المحلي، وفتح علاقات جديدة مع الاتحاد الأوروبي، وتطوير قوانين الاستثمار، ثم تشجيع الزراعة والسياحة والقطاعات المشابهة.
حققت البرازيل في عهده استقرارًا اقتصاديًا، وخفضت ديونها، وزادت احتياطياتها من العملات الأجنبية، وأبقت التضخم تحت السيطرة، وكلها إنجازات ملحوظة في منطقة تعاني من الانهيار الاقتصادي.
استطاعت سياسة دا سيلفا أن تجتذب للبرازيل 200 مليار دولار في صورة استثمار، ازدهر الاقتصاد لدرجة أن البرازيل التي كانت تعاني من البطالة استقدمت مليوناً ونصف مليون عامل أجنبي، عادت الطيور المهاجرة بسبب الفقر، فعاد للبرازيل مليونا شاب برازيلي كان قد هجر بلاده بسبب الجوع والفقر والبطالة.
وارتفعت البرازيل اقتصادياً لتصبح في المرتبة السابعة عالمياً بناتج محلي إجمالي يتجاوز تريليوني دولار سنوياً، ونصيب الفرد فيه يقترب من 10 آلاف دولار.
كانت البرازيل تنفق في عهده حوالي 0.5% من إجمالي الناتج المحلى بتكلفة تقدر بين 6 و9 مليارات دولار كإعانات عينية للفقراء، بواقع 87 دولاراً شهرياً، وهو ما يعادل 40% من الحد الأدنى للأجور في البلاد، وقد انتشلت هذه السياسة نحو 11 مليون أسرة، حوالي 64 مليون شخص بما يعادل حوالي 33% من الشعب البرازيلي، وقد أدى هذا، تقول مؤسسة “سيتيليم” المتخصصة في أبحاث المستهلكين، إلى أنه قد صعد أكثر من 23 مليون شخص من الطبقات الفقيرة إلى الطبقة الوسطى، التي يتراوح دخلها بين 457 و753 دولاراً شهرياً، وزاد دخل السود في عهده بنسبة 220%.
صفر جوع
أطلق برنامج “صفر جوع”، الذي يسهل توفير المواد الغذائية الأساسية للفقراء، وأطلق مشروعاً بقيمة 2.6 مليار دولار لتحسين ظروف عيش الطبقات المعدمة، والتهيئة المجالية للأحياء الفقيرة وتزويدها بالكهرباء والماء الصالح للشرب وشبكات الصرف الصحي، وهو ما استفاد منه نحو 12 مليون برازيلي.
لولا دا سيلفا هو الذي أحدث طفرة في التعليم، وهو الرئيس البرازيلي الوحيد الذي لم يتلق تعليماً عالياً، ولم يحصل على شهادة جامعية، ولكنه أكثر رئيس بنى جامعات في البرازيل.
شقة الرئيس!
في أبريل 2018، سُجن دا سيلفا بتهمة فساد ملفقة كجزء من تحقيق في قضية أطلق عليها “عملية غسيل السيارات” (“لافا جاتو”)، واتهم بأنه أخذ شقة مصيفية كرشوة، رغم أنه لم يغير شقته التي كان يسكنها قبل الوصول لرئاسة البرازيل، ولكن مؤسسة “إنترسبت” الأمريكية الإعلامية كشفت بأنها مؤامرة لثنيه عن العودة إلى السياسة، ولذلك أطلق سراحه في نوفمبر 2019 بعد أن أمضى 580 يومًا في السجن.
دا سيلفا والقضية الفلسطينية
لولا دا سيلفا أحد أبرز الزعماء الداعمين للقضية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية، وقد عبر عن ذلك حين قام بزيارة له للضفة الغربية، عام 2010، بأن حلمه “أن يرى فلسطين حرة مستقلة، وتحيا بسلام في الشرق الأوسط”، وفي ذات السنة، اعترف باستقلال دولة فلسطين في حدود عام 1967.
ومثَّلت القضية الفلسطينية نقطة مهمة في برنامج دا سيلفا الانتخابي؛ إذ دعا إلى دعم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، حتى خلال حملته الأخيرة، كما حث على إعادة هيكلة الأمم المتحدة بحيث يمكن إحراز تقدم في القضايا العالمية المهمة مثل “إقامة دولة فلسطينية”.
وبعد فوز دا سيلفا خلال الانتخابات الجارية، يرى مراقبون أن فلسطين ستكسب صديقاً قوياً في أحد أكبر دول أمريكا اللاتينية وأكثرها تأثيراً، وداخل المنظومة الدولية.