توجه عدد من المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي إلى فضيلة د. يوسف القرضاوي بعدد من الأسئلة حول هذه القضية، وجاءت الأسئلة والإجابة كالتالي:
إذا عُرف شخص لدى الناس بالاستقامة والنظافة والصلاح طوال عمره، وفجأة ظهر من يتهمه بأشنع التهم من الزنى، وعمل قوم لوط، والقتل.. وغيرها، فما حكم الشرع في المتهم والتهم؟
– رمى البرآء بالتهم، وخصوصاً التهم الكبيرة، مثل: الزنى، واللواط، وقتل النفس، يعتبر في نظر الإسلام من المحرمات المقطوع بها، بل من كبائر الإثم وعظائم الذنوب، التي تستوجب مقت الله تعالى وعذابه، ولعنته في الدنيا والآخرة، وذلك لما فيه من عدوان على حرمات المؤمنين والمؤمنات، وإساءة الظن بهم، وتجرؤ السفهاء عليهم، وإشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، ولذلك ذم القرآن هذا السلوك أبلغ الذم، وتوعد مقترفيه بعذاب الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) (الأحزاب: 58)، وقال جل شأنه: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {23} يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {24} يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور).
وقد أجمع علماء الأمة على أن رمي المؤمنين مثل رمي المؤمنات في الإثم والعقوبة، وإنما جاءت الآية بهذه الصيغة لأن السياق جاء في الدفاع عن عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، أحب أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد خديجة، هذه الطاهرة، البتول لاكت عرضها ألسنة السوء، وأشاعوا عنها قالة السوء واتهموها برجل من أصحاب رسول لم يعرف عنه ريبة قط، ولكن المنافقين انتهزوها فرصة، وأشعلوا نار الفتنة، وكانت قصة حديث الإفك الشهيرة التي أقلقت البيت النبوي والبيت الصديقي، والمدينة كلها، حتى نزل القرآن من فوق سبع سماوات يفصل في القضية، ويرد الأمور إلى نصابها، ويخرس كل لسان كذوب، ويبرئ الصديقة الطاهرة من كل سوء، ويخرج المسلمين من هذه المحنة القاسية المريرة.
(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {11} لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور).
هذا حكم الله القاطع: أن من اتهم إنساناً بفاحشة الزنى فعليه أن يثبت دعواه بأربعة شهداء عدول لا مظن فيهم، رأوا الرجل وهو يزني بالمرأة عياناً بياناً، كما حددتها النصوص الشرعية (كالميل في المكحلة، والقلم في الدواة)، فإذا لم يأت بالشهداء الأربعة على هذا الوجه المبين، فذلك هو الكاذب عند الله.
وهذا الكاذب عند الله له عقوبة شرعية، بل عقوبات ثلاث، نص عليها جميعاً القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور).
عقوبة الكاذب
ذكرت الآية الكريمة ثلاث عقوبات لهذه الجريمة البشعة:
الأولى: عقوبة بدنية: وهي أن يُجلد ثمانين جلدة، تؤذي بها بدنه، كما أذى أنفس البرآء، ونغّص عليهم حياتهم، وأساء إليهم وإلى ذويهم.
والثانية: عقوبة أدبية اجتماعية: وهي إسقاط اعتبارهم الأدبي والاجتماعي، فلا تقبل لهم شهادة في أي مجال من المجالات؛ المالية، أو المدنية، أو الاجتماعية، أو السياسية؛ لأن كلمة “شهادة” جاءت نكرة في سياق النفي فتشمل كل شهادة، ومن هنا يجب حرمانه من حق التصويت في الانتخابات، لأنه نوع من الشهادة، وبالتالي من باب أولى حق التشريع.
والثالثة: عقوبة دينية: وهي وصفه بالفسق، وإدخاله في زمرة الفاسقين.
والقرآن الكريم جعل الفسق في بعض الأحيان مقابل الإيمان، فقال تعالى: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18).
ومن رحمة الله تعالى أنه فتح باب التوبة لمن أراد أن يتطهر ويغسل نفسه، فقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 5).
وإن كان الإمام أبو حنيفة يرى أن التوبة تؤثر في إسقاط العقوبة الأخيرة –وهي الوصف بالفسق- فقط، ولا تؤثر في إسقاط الشهادة؛ لأنها موصوفة بالتأبيد؛ (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً).
ويزداد الجرم عظماً إذا اتُّهم من عُرف بين الناس بالاستقامة والصلاح، وأنهم لا يعلمون عنه إلا خيراً، فإن ألسنة الخلق أقلام الحق، والعبرة بشهادة الصالحين وأهل الخير فيهم؛ “شهداء الله في الأرض”، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد شدد الإسلام في المحافظة على أعراض الناس وحرماتهم وكراماتهم، ولم يبح لمسلم أن يتناول مسلماً بكلمة سوء في حضرته أو في غيبته، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
وفي الحديث الصحيح: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه”.
ولو لم يفعل الإسلام ذلك، لتسلط الناس بعضهم على بعض، وديست الكرامات، وانتهكت الحرمات، وضاعت الحقوق والحريات.
هل من حق المتهم أن يدافع عن نفسه؟ وهل يجوز منعه من ذلك؟ وما واجب المجتمع المسلم حياله؛ أيسعه السكوت وترك الأمور تجري في أعنتها؟ أم يقف بجواره مناصراً؟
– نعم، من حق الفرد الذي اتُّهم في دينه وعرضه وسلوكه ظلماً أن يدافع عن نفسه، وتجاه من ظلمه، ويرفع صوته جاهراً بالحق، بل أباح الله تعالى له ما لا يبيح لغيره، رعاية لظرفه، وذوداً عن حرمته حين قال الله تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء: 148).
ويجب على المجتمع المسلم أن يتيح له الفرصة، ويحفظ له الحرية في هذا الدفاع عن النفس بكل ما يستطيع قولاً باللسان، أو كتابة في الصحف، أو حديثاً إلى المذياع، أو إلى التلفزيون، ولا سيما إذا كان شخصية عامة لها وزنها وتأثيرها، فلا يجوز شرعاً أن يترك لمخالب خصومه وأنيابهم تفترسه جهاراً نهاراً، والمجتمع يتفرج، ولا يحرك ساكناً، والأبواب مغلقة على المتهم البريء، لا يملك أن يرد عن نفسه أسلحة الخصوم الذين يملكون كل شيء، وقد جرد هو من كل شيء، وأدهى من ذلك أن يشارك الناس في حملة الافتراء بنقل كلام السوء دون إنكار.
كيف تتوافر للمتهم محاكمة نزيهة محايدة عادلة، لا تقع تحت نفوذ الحاكم وسلطانه، ولا تحكم إلا بشرع الله، الذي يرضى به الجميع حكماً في الفصل في الخصومات والنزاعات؟
– المقذوف بالزنى أو اللواط ونحو ذلك لا يُحاكَم، إنما الذي يُحاكَم مَن قذفه، لأنه ادَّعى عليه، فعليه أن يثبتها بالبيِّنة، فمن القواعد الشرعية المقررة أن البيِّنة على من ادَّعى، واليمين على المدَّعَى عليه، ولكن في هذه القضية خاصة، لا يطلب من المدعَى عليه؛ لأن الأصل في الناس البراءة من التهم، كما أن الأصل في المسلم حسن الظن به، وأن يحمل حاله على الصلاح.
فمن حق كل إنسان رُمي بهذه التهم الشنيعة أن يطلب محاكمة من اتهمه محاكمة شرعية عادلة، ومن واجب القاضي المسلم الذي يتحرى رضوان الله تعالى وتحكيم شرعه أن يطالب قاذف المتهم بإقامة البيِّنة على دعواه –أربعة شهداء كما صرح القرآن الكريم– ودون ذلك خرط القتاد، كما يقولون، فإذا لم يفعل –وهذا هو الغالب– فيجب على القاضي أن يقيم حدَّ الله تعالى، ويأمر بجلده ثمانين جلدة، مع إسقاط شهادته واعتباره، ورميه بالفسوق إلا أن يتوب، ولا يستثنى من ذلك إلا حالة واحدة ذكرها القرآن الكريم، وهي إذا ما رمى الزوج زوجته بالزنى، فهنا فرض الله عليهما ما عرف باسم “اللعان”.
إذا اختلف رئيس ونائبه في بعض الأقطار حول بعض القضايا المالية والإدارية والسياسية وغيرها، وتبادلا التهم في ذلك، فما الطريقة الشرعية لحل النزاع بينهما؟
– أمثل الطرق في ذلك: تحكيم جهة محايدة مرضية من الطرفين، لا تخضع لسلطان الرئيس بما يملك من إغراءات وتهديدات، ولا تتأثر بوعد ووعيد، وتنظر في الأمر بحيدة وإنصاف في ضوء مصلحة الأمة، سعياً إلى التوفيق ما استطاعت، فيد الله مع الجماعة، والاتحاد خير، والفرقة شر.
وهذا ما فعله أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، وقبله الصحابة الموجودون معه ومع معاوية، وإن رفضه الخوارج بعد ذلك، قائلين: لا حكم إلا لله.
ولكن ترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أفحمهم بحجته البالغة، حين قال لهم: “إن الله شرع التحكيم فيما هو أهون من ذلك، في الخلاف داخل الأسرة بين الزوجين، فكيف لا يشرع التحكيم في خلاف يتعلق بالأمة، وتلا عليهم قول الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) (النساء: 35).
وأعتقد أن لجنة من كبار أهل الرأي والحكمة من المسلمين من إندونيسيا، أو باكستان، أو المملكة العربية السعودية، أو غيرها تستطيع أن تفصل في هذه بما يشرح الله لها صدورها من الحق، وبالنيات الصالحة، والعزائم الصادقة، والجهود المبذولة، تزول الصعوبات، ويسهل الطريق، ويحدث التوفيق كما قال الله تعالى في شأن الحكمين: (إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا).
وإني لأهيب بإخوتي في ماليزيا الشقيقة التي كانت تمثل أحد آمال المسلمين في التقدم والنمو، أن يعملوا جاهدين لإطفاء نار الفتنة، وجمع الشمل، وتوحيد القوى الوطنية، لمواجهة المؤامرات الكبرى التي تحاك لهم وللمسلمين عامة لتحطيم رموزهم وشغل بعضهم ببعض، لتستمتع القوى العظمى بخيرات بلادهم، وثروات دولهم، بأرخص الأسعار، وهم في غمرة ساهون، وبخصوماتهم مشغولون.-
_____________________________________
العدد (1321)، ص58-59 – 23 جمادى الآخرة 1419ه – 13/10/1998م.