إن مفهوم الأمة في الإسلام مفهوم قرآني موجود في سياق محكم، وهو ليس مجرد اسم أو مصطلح أو لفظ، بل هو وعاء معرفي جامع، والأمة مركز ثقل البشرية بما تحمله من قيم عقدية وأخلاقية سماوية تجعلها ملتقى كل الأجناس والأعراق واللغات، وتجعلهم في بوتقة واحدة، يشد بعضهم بعضاً، فتربط بين أوصارهم وآمالهم وتزيد وتعمق التفاهم بينهم، كما توحد المشاعر والمدارك بينهم حتى يصبحوا وكأنهم جسد واحد، أمة لا تفرقها حدود جغرافية أو عرقية أو غيرها، الكل بداخلها علي اختلاف الجماعات البشرية صبغ بعقيدة الإسلام ومتمسك بقيم القرآن الشاملة والكاملة والممتدة إلى الدار الآخرة، وقد وضع الله سبحانه لهذه الأمة وظائف وخصائص مميزة تمهد لها الطريق لأن تقوم بدور الدعوة والاستخلاف.
قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 110).
ولا يخفى على كل لبيب ما وصلت إليه حال أمتنا الإسلامية في ظل ما تعيشه من نكبات وويلات، وفرقة وشتات، وتسلط للأعداء في بقاع الأرض، وهذا الشرخ الغائر الذي يزداد تجذراً وعمقاً في جنباتها، ولا يعجزه إدراك حجم الفُرقة والشتات الذي يمزق صفوف المسلمين؛ شعوباً وأنظمة، لقد أحرز الباطل نجاحاً كبيراً في كثير من حملاته، وأصاب الأمة إصابات بالغة في صولاته وجولاته، إنَّ ضعف الأمة، وذهاب ريحها، وهوانها على الناس؛ إنما يكون بتنازعها وشقاقها، قال الله ـ تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) (الأنفال: 46)، وهلاك مَنْ هلـك ممـن كـان قبلنــا إنمـا كـــان بسبب اختلافهم، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تختلفوا؛ فإن مَنْ كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»، وصدق الأستاذ عباس محمود العقاد عندما قال: «كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة، ولكنه لا يجد مَنْ هو أهل للانتصار عليه».
تعددت الكيانات والتجمعات والجماعات والمشاريع الإسلامية، وتمزَّق الفصيل الواحد إلى فصيلين أو أكثر، وكثر التلاسن والتباغض والتحاسد، وانتشر القيل والقال، وطفح الكيل، وأصبحت اللغة الحزبية الضيقة هي اللغة السائدة عند كثير من الناس، وارتفـعت حمّى التصنـــيف -عند بعض الشباب- بما يؤدي إلى الازدراء والتنقيص وشحن النفوس، وإذا كان الإمام مالك بـن أنــس رحمه الله يقــــول: «ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف»، فماذا نقول نحن في هذه الأيام؟!
وواللّهِ! إن القلب ليتقطع ألماً وحزناً على طاقات الشباب المهدرة في تلك الصوارف التي تُذهب حلاوة الدعوة، وتُفسد على المرء دينه، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «تكلمتَ فيما لا يعنيك فشغلك عمّا يعنيك، ولو شغلك ما يعنيك لتركتَ ما لا يعنيك».
أرى أن الفرقة بلغت حداً غيــر مقبـــول شـــرعـــــاً ولا عقلاً، والتنازع مهما كان صغيراً فهو من أبواب ضعف الأمة؛ فكيف إذا كان هذا التنازع كبيراً؟! وكنا نظن أن الفتن والتحديات ربما توحِّد الصالحين والمصلحين، وتجعلهم صفاً واحداً أمام خصومهم، لكننا فوجئنا بعكس ذلك في مواقف عديدة لا تخفى على كثير منا، قال ابن تيمية: «متى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب»، والنجاح الحقيقي الذي تشرئب إليه الأعناق، وتتطلع له النفوس الشريفة؛ هو ذلك النجاح الذي يجعل راية الدين الحق عزيزة كريمة على يد أي مسلم كائناً من كان، وتأمَّلوا قول الإمام الشافعي رحمه الله: «ما كلَّمتُ أحداً قط إلا أحببتُ أن يوفَّق ويُسدَّد ويُعان، وما كلَّمتُ أحداً قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه».
ولتعلم أخي المصلح، أن الأمة الآن في هذه اللحظة الفارقة تحتاج لكل مسلم متجرد غيور على دينه وأمته، وضع الآخرة قبلته وسعى لها، لأنَّ مَنْ أراد الآخرة وسعى لها سعيها احتسب ذلك عند الله؛ (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ لاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 89)، والرائد في أهله لا بد أن يُروِّض نفسه على الصبر، والإقبال على الناس حتى لو أعرضوا عنه، أو جهلوا عليه، وهذا من أعظم المجاهـدات المأمـــور بهــا، وهنا موضع تميز المتجردون، أصحاب القلوب النقية، والهمم العالية، الذين ينحتون في الصخر بكل جَلَد وأناة، لخلق مناخ صحي يجمع ولا يفرِّق، يؤلِّف ولا يشتت، يؤسس ولا يهدم، ومَنْ استوحش المضي في هذا السبيل بسبب قلَّة الناصر أو المعين، أو استثقل مطارق الأذى؛ فليس له في الريادة حظ ولا نصيب، قال الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)، وقال الله عز وجل: (وَلا تَسْتَوِي الْـحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 34 – 35).
ومن يتمعن في كتاب الله عز وجل، وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم وسيرته العطرة والتاريخ الإسلامي، يجد أن أسباب النصر والتمكين ورفعه هذا الدين ونهوض الحضارة الإسلامية لا يعتمد على الأسباب المادية إطلاقاً، فكل الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا الدين ونصرة الإسلام والمسلمين كلها معنوية بالأساس، وما يتعلق بالأسباب المادية قد أوجزها شهيد الظلال الأستاذ سيد قطب رحمه الله، في كتابه «معالم في الطريق» عندما قال: «إن هذه الأمة لا تملك الآن –وليس مطلوباً منها– أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي، يحني لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقته في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر –خلال عدة قرون على الأقل– التفوق المادي عليها! فلا بد إذن من مؤهلِ آخر! المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة، إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا، ولكن لا بوصف المؤهل الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة، إنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا».
أيقن أعداء هذا الدين أنهم لن ينتصروا على الإسلام والمسلمين بقوة السلاح إطلاقاً، وأن حضارتهم في خطر إذ لم يفعلوا أمراً واحداً، أن يعملوا على غرس الفرقة بين أبناء الأمة الإسلامية، وعليهم العمل بكل جهد على إعاقة ومنع تمكين الأمة الإسلامية من الوحدة وهذا ما نراه بأم أعيننا ونعيشه الآن، وما اتفاقيه «سايكس بيكو» ببعيدة، التي قد يظنها كثير من المسلمين أنها صَنعت حدوداً جغرافية بين الدول العربية والإسلامية وفقط، قد يبدو هذا في الظاهر لكن في حقيقة الأمر أن هذه الاتفاقية وهذا المكر الذي عملوا عليه ليل نهار، قد أنشأ مبادئ وأفهاماً وسياسات وأفكاراً جديدة مُستغربة بين الشعوب العربية والإسلامية، فأصبح التباين ليس فقط من قبيل الجغرافيا والحدود وتباين وتنازع في كثير من القضايا المهمة.
إن الدعوة إلى وحدة الأمة ليست مشروعاً عاطفياً أو أُمنِيَة بعيدة المنال، ضعيفة الأثر، بل هي نداء صادق لتجميع طاقات الأمة، ولمِّ شملها، وتوحيد صفوفها، وأن التفريط في وحدة الأمة وتماسكها نازلة خطيرة تستدعي من أهل الإسلام أن يكونوا على مستوى الحدث، وأن يتخذوا ما أمكن من الحيطة والحذر، ولقد حصدت الأمة مرارة التفرق والانقسام، ولا يمكن أن تخرج مما هي فيه إلا بالرجوع إلى أصولها العقدية وجذورها التاريخية، وتعض عليها بالنواجذ، لعل الله يسخّر لهذا المشروع رجالاً أقوياء، أمناء يحملون هذه الأمانة بكل فخر، وأن يقر أعيننا بأمة موحدة يُمَكّن فيها لدين الله؛ (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا) (الإسراء: 51).