الخلافة ذلك المَعْلَم الإسلامي الخالص الذي لم يسبق لأمةٍ في التاريخ ادعاؤه؛ فلم يكن تقليداً خاصاً بحضارةٍ من حضارات الغرب أو الشرق، ولكن كان هدياً قرآنياً وتوجيهاً نبوياً، وسلوكاً إسلامياً، عاشت به الأمة قروناً عديدةً؛ فحازت به الريادة، ونالت به أرفع مقامات التمكين، وتربَّعت به على عروش الريادة والتأثير.
الخلافة تلك المِظَلّة الجامعة التي كانت من أسباب محافظة الأمة على وحدتها، وحماية مقدراتها، وحراسة مقدساتها، والتفافها حول هويتها، ورعاية رابطتها.
الخلافة تلك السُّنَّة الإسلامية التي عاشت الأمة بها مصونةَ الجناب، قويةَ الأركان، تهيمن الشريعة الإسلامية على مجريات حياتها، فتحكمها بتوجيهات القرآن الكريم، وتحت لوائه ورايته.
الخلافة تلك الشعيرة الإسلامية التي نالها من التشويه ما لم تُبْتَلَ به شعيرةٌ أخرى، التي ضاعت معالمها بين سوء التطبيق، وسطوة الاستبداد حيناً، وسوء الفهم، وتآمر الحاقدين على مدار العصور والأزمنة أحياناً، وضعف أبناء الإسلام المخلصين عن الدفاع عنها، وتطوير أدواتها لتواكب مختلف العصور والأزمنة.
الخلافة هي المِظَلّة الجامعة التي كانت من أسباب محافظة الأمة على وحدتها وحماية مقدراتها
الخلافة تلك الشعيرة التي استطاعت قوى الكفر والطغيان الدولي تشويه صورتها، وتحريف مفهومها، وصناعة النماذج المنسوبة إلى شريعة الإسلام زوراً وبهتاناً، لتقدم أسوأ النماذج باسمها، وأفسد القيم والمبادئ تحت رايتها المكذوبة.
واستطاعوا -للأسف الشديد- أن يضعوا بين المسلمين وفكرة الخلافة حاجزاً سميكاً، بسبب تلك النماذج المُشَوَّهة، المصنوعة في دياجير المخابرات العالمية، حتى أضحى الكُتَّاب والعلماء والرواد يفكرون آلاف المرات قبل أن يكتبوا سطراً عنها، أو يعطوا محاضرة عن مكانتها، أو خطبة عن أهميتها، أو مقالاً يذكر بعض مناقبها.
لقد ظُلِمَ مفهوم الخلافة من أهله حينما فرَّطوا فيه، وحينما سمحوا بارتداء عباءته لكل مَن هَبَّ ودَبَّ، وحينما تقاعسوا عن السعي لإقامته، وبذل الجهود لإعادته، وصناعة التصورات المناسبة للتحقق به على الوجه الأمثل في واقعنا المعاصر، بما يتناسب وروح العصر، وثوابت السياسة الشرعية.
ظُلِمَت الأمة بحرمانها من المِظَلَّة السياسية لوحدتها، ومن التحاكم بها وفق شريعة ربها، حُرِمت من وحدة تجمع شتاتها، وتحمي مقدساتها، وتحفظ ثوابتها.
ونحن اليوم بعد مرور مائة عام على إسقاط الخلافة ننظر بحسرة وأسف على ما آلت إليه حال الأمة بعد ذلك الحدث المشؤوم، فتفرقت أيّما تفرُّق، وتنازعت وتقاطعت وتدابرت، وتسلط بعضها على بعض، وهانت في عيون أعدائها؛ فأضحت بلاد المسلمين وثرواتهم كلأً مباحاً لكل مَن هَبَّ ودَبَّ.
منذ إسقاط الخلافة حتى يومنا لا نرى المسلمين إلا في تأخُّرٍ وانحدارٍ في جميع مناحي الحياة
تأخُّر وانحدار
فمنذ إسقاط الخلافة حتى يومنا هذا لا نرى المسلمين إلا في تأخُّرٍ وانحدارٍ وهبوطٍ في جميع مناحي الحياة، حتى إنهم أصبحوا في ذيل الأمم، تلعب بهم الدول الكافرة كما يلعب الصبي بالكرة، بل إن الأمر أشد من ذلك؛ فقد تفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها.
فها هي القدس الشريفة استلبها منهم اليهود، وقامت الدولة «الإسرائيلية» في قلب الأمة الإسلامية، وعلى أنقاض دولة فلسطين المسلمة، وأصبحت لها الكلمة العليا والمكانة المرموقة في المنطقة الإسلامية.
وأضحى النظام الدولي الصليبي هو المهيمِن على البلاد والعباد يتحكم في اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا وأفكارنا، فضُرِبَ الحصار على غزة، وكانت الدول المجاورة أول المنفِّذين له، كما دمرت معالم الدول، وشوهت هوية أهلها، ونهبت ثرواتها في العراق ومصر والشام والسودان واليمن.. إلخ، والعالم الإسلامي في سُباتٍ عميقٍ، وكل يوم تسمع من المسلمين من ينادي: واغوثاه! فلا ترى له مجيباً، ولا لعِرْضِه حامياً، وعجزنا حتى عن الكلام الجادّ، ولا نملك إلا أن ينتظر كل منا دوره، وما سيفعله بنا الأعداء.
أما الأعداء فقد وحَّدوا صفوفهم، وأعدوا قوتهم، وتعاونوا على إذلالنا، وتحطيم كبريائنا، واستغلال خيراتنا، ومحاصرة نظام ديننا، وتمييع رابطة الإسلام التي تربطنا، وإحياء العصبيات والقوميات للقضاء على كل أمل في وحدتنا.
وإن المنكر قد شاع وملأ البقاع، وصارت له الكلمة العليا في كل نظم الحياة الإسلامية، وصار صوت الحق خافتاً، ونور الإيمان في القلوب باهتاً، وصار الإسلام نظام الحياة الإلهي الكامل مُطارَداً من أنظمة الحكم الجاهلي التي تحمل كذباً اسم الإسلام، الإسلام الذي أصبح لا يحكم بلاد المسلمين!
الأمة بحاجة إلى نظام الحكم الإسلامي المتمثل في «الوحدة الإسلامية» للنجاة من هذه المهالك
فما الحل إذن؟ وقد جرَّبت الأمة أنظمة مختلفة، منها الاشتراكي والرأسمالي والديمقراطي وغيرها، وجرَّبت التحالف مع الأقوياء؛ فتحالفت مع روسيا فلم تفلح، وتحالفت مع أمريكا فلم تنجُ، وتحالفت مع بريطانيا فلم تنجح، وتحالفت مع بعضها بعضاً على غير الإسلام فلم تحصد إلا الفُرقة والخلاف.
ومن هنا، فإنه يبدو لكل ذي عينين أن الأمة لا نجاة لها إلا بالإسلام؛ عقيدة، وشريعة، ومنهجاً.
إسلام يتمثل في العودة إلى كتاب الله ليحكم البلاد والعباد، وإلى سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسير على نهجها، ونقتدي أثر صاحبها صلى الله عليه وسلم، الإسلام الذي لا يجعل الحاكم متحكّماً في أرزاق الناس يحكم بالهوى، ويأخذ بالظن، ويعاقب بالشُّبهة.
نظام الحكم الإسلامي
إن الأمة في حاجة ماسّة إلى نظام الحكم الإسلامي المتمثل في «الوحدة الإسلامية» لكي تنجو من هذه المهالك التي تحيط بها من كل مكان؛ لذا، كان من الواجب علينا إعمال سُنَّة التدافع، قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
فعلينا أن نكتب عن الخلافة؛ لنُذكر الأجيال بمفهومها وفضلها ومكانتها، وحاجة الأمة إليها.
فلنكتب عن تاريخها المجيد، ولنفنّد الأكاذيب والشُّبُهات التي أثيرت من أبناء جلدتنا، ومن الحاقدين على الدين من الكفار والمنافقين وأصحاب المصالح وأهل الأهواء.
فَلْنُعِدْ للخلافة في عقول أجيالنا مكانَهَا، وفي علماء أمتنا ودعاتها عميمَ فضلها، وفي أفكار الرواد والمؤثرين عظيمَ الحاجة إليها.
فلنكتب عنها الآن خاصة ونحن في عصر الانهزام، والتشتُّت، والضياع؛ ولتكون جهودنا في هذا السبيل باكورة حملة مُدَافَعة للباطل ومنهجياته، والكفر وفلسفاته، التي ما عادت على الأمة إلا بمزيد من التشتت والضياع والخذلان.
كما أن الأمة في مثل حالتنا الراهنة تحتاج إلى مَن يبشّرها ويبصّرها، وَالرَّائِدُ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، فَلِمَ لا ندفع اليأس والإحباط عن أمتنا، ونزرع فيها اليقين في ربّ كريم، وغد عظيم، ومستقبل مبهر، وتمكين ورخاء؟
لنُعِدْ للخلافة الإسلامية في عقول أجيالنا مكانَهَا وفي علماء أمتنا ودعاتها عميمَ فضلها
وكما قال الشيخ محمد الغزالي مستنكراً: «إذا كان واقع الصين عادياً، وأصبح الثمانمائة مليون إنسان دولة موحدة (العدد الآن مليار وأربعمائة وتسعة ملايين نسمة)، فلماذا يكون الوجود الإسلامي خيالاً مستبعداً؟ ولو كان اتحاد ولايات أو تحالف دول متآخية!
وبالطبع، فإن هذه الحالة المتردية لم نصل إليها إلا حينما ابتعدنا عن منهج الله سبحانه في كل شؤون حياتنا.
وإنه إذا أردنا أن نستعيد مكانتنا وسط الأمم، فليس هناك طريق غير طريق الوحدة الإسلامية، وهي ليست مستحيلة في وقتنا الحاضر، فمن الممكن قيامها، بل يجب أن تقوم، خاصة ونحن في عصر تتكتل فيه الأمم وتتوحد.
إننا أمة ذات تاريخ، وما زال بيننا كتاب الله وسُنة رسوله، وهما كفيلان بإنقاذنا، بل وإنقاذ العالم كله من مصير مظلم إن لم تتدارك الجميع رحمة الله.
إن الحضارة الغربية في طريقها إلى الإفلاس فلننفض عن أنفسنا غبار القرون، ولنخلصها من الشوائب والرواسب التي جاءتنا من هذا وذاك، ولا سبيل أمامنا -لدنيانا وآخرتنا- إلا ديننا، إلا نظام حكم إسلامي يردنا ويرد العالم كله إلى الصواب، والرشاد، ولنحذر المعوقين.